اضرب المنحطين! خطورة دعايات فساد القضاء ليس بعيداً عن التوقع أن يكون هناك خيط ما يربط بين عدد من علامات قلة الأدب في الداخل.. ومنابع الانحطاط الإقليمي.. هذا الخيط قد يكون علاقة مباشرة.. وقد يكون أيضا احتفاء إعلاميا.. وهو في كل الأحوال نوع من توظيف الخارج لتفاعلات الداخل في مصر.. من أجل تحقيق أهداف مشتركة بين فيالق الانحطاط المتحالفة. وأتوقف اليوم أمام بعض ظواهر "الانحطاط" التي جرت في الأسابيع الأخيرة في مصر.. لا أريد هنا أن أذكر أسماء بعينها.. ولكنني أتكلم عن المضمون.. فهو علي تهتكه وابتذاله.. ينخرط فيما لا يمكن الشك في أنها أمور مدبرة.. ومخططة.. وليست عفوية علي الإطلاق. مثلا، هذا الجدل الذي أثاره أحدهم بخصوص سمعة القضاء في مصر.. واستقلاله.. وتوصيف القضاء بأنه تابع للدولة..وهو كلام لا أصل له ولا علاقة له بالحقيقة.. لكن صاحبه.. أو للدقة أصحابه.. إذ لم يكن هذا ترديد واحد فقط.. ولكنه تضخم.. ووجد له صدي في الاعلام العربي.. وتم تسليط الأضواء عليه.. وصنعت منه خميرة لعجينة لم يعرف أحد كيف ستكون ملامحها وتشكلاتها فيما بعد وفيما سوف تستخدم. والاستقلال هو ألا يتدخل أحد في حكم القاضي.. وليس معروفا في تاريخ القضاء أن أحدا قد أمر بأي حكم.. أو وجه قاضياً إلي أن يصدر قرارا دون آخر.. بل إن القاضي الذي يتلقي توجيها بحكم لا يكون قاضيا.. ويكون السؤال هو: لماذا يردد قضاة سابقون هذا الكلام عن القضاء المصري؟ ويتحدثون في هذا السياق تحت عناوين رهيبة عن فساد القضاء عن أن ميزانيته ليست مستقلة.. وعن سلطة إتمام التنقلات.. وهذا كلام قد يكون ظاهره صحيحاً.. لكن باطنه باطل بالتأكيد.. لأن مجلس القضاء هو الذي يدير القضاء.. ولأن القاضي الذي يخاف من قرار نقل أو ما شابه لا يكون قاضيا.. ولأن هناك قواعد تتبع.. ولأنه لا يمكن مقارنة نظام استقلال القضاء في مصر بدول أخري توصف بأنها ديموقراطية وهناك تدخلات رهيبة للإدارة فيها في عمل القضاء. إذن لماذا تطاولت أصوات قلة الأدب علي قضاء مصر؟ ولماذا تصر علي ترديد هذه المعاني؟ الإجابة بسيطة جدا.. وهي أن هذا هو جزء من حملة موسعة مستمرة لها أبعاد مختلفة.. الهدف من هذا البند فيها.. هو تشويه سمعة القضاء المصري وأحكامه بحيث لا يمكن الوثوق فيها.. وبحيث يكون الانطباع عنها أنها موجهة.. وتابعة.. وبالتالي تعطي حملة قلة الأدب نفسها المبرر لكي تسعي إلي طلب الفصل في الشئون الداخلية أمام جهات تقاض دولية. والمعني أن قلة الأدب ليست انحطاطا فقط.. وإنما هي تنطوي علي أهداف شريرة.. تطيح في طريقها بمزيد من القيم والقواعد المستقرة.. وتستهدف الإنقاص إن لم يكن إعدام مستوي مصداقية المؤسسات.. فيكون بالتالي من حق مزيف أن يدعي أنه قد أدين افتعالا وتربصا.. ومن حق فاسد أن يزعم أنه قد حكم عليه لأنه معارض وليس لأنه مجرم.. ومن حق خاسر أن يذهب إلي محكمة خارجية مروجا أنه قد تعرض لتزوير وتزييف انتخابي.. وغير ذلك كثير. ناهيك بالطبع عن أن مثل هذه الأمور إنما تسبب جدلاً.. وتثير طعناً.. وتخلق حنقاً.. وتفجر صخباً.. وتجعل الشرفاء في موقف الدفاع.. وتدفع الأتقياء إلي القنوط.. وتصيب الاطهار بالإحباط.. وتفتعل مناخاً نفسياً مؤذياً.. وتطرح تساؤلات علي الأجيال الجديدة.. لاسيما إذا التزم الذين يتبعون القواعد المؤسسية بالأخلاق والقيم وعدم الرد علي فريق قلة الأدب بمنهج الصمت.. والترفع.. والتعالي.. ما يؤدي إلي بقاء الصوت المنحط عاليا بدون أن تسقطه سهام الرد وطلقات تقتل ادعاءاته. إذن لابد أن نراجع موقفنا هذا.. وأن نعيد تقييم أساليب إدارة تلك المعارك.. حتي لو كانت تفرض نفسها علي الساحة عنوة.. وخصوصاً أن لها أهدافاً أخري غير الابتذال.. هذا الانحطاط لابد له أن يقف عند حده.. وأن يحظي بأكبر قدر من المواجهة.. والتصدي الحقيقي الفعال.. الذي لا يخشي الاشتباك مع هذا المرض العضال الذي حط علي الساحة في مصر. الصمت في هذه الحالة ليس ترفعاً.. ولكنه يحسب تراجعا.. وهو ليس تعالياً.. ولكن يتم الظن فيه أنه خوف.. كما أنه يؤدي إلي اختلاق فصائل من المترددين.. الذين يتابعون دون أن يعرفوا الحقيقة.. فيكونون فريسة لترسيخ معني يقول إن ما لم يتم الرد عليه هو في واقع الأمر حقيقة مؤكدة. ومن ثم فإن علي المؤسسات أن تدافع عن نفسها.. وأن تتصدي لكي تفرض أسلوبها الأخلاقي علي التفاعل.. وحتي تطرد هؤلاء الذين يمارسون قلة الأدب من أمام الرأي العام وتكشفهم علي حقيقتهم.. تلك طبيعة الأمور في عصر الحراك.. ومن يعتلي المنبر.. أي منبر.. يحظي بفرصة الإنصات له.. فإن تركنا له المنابر خالية فإنه سوف يبقي فوقها يخاطب الناس.. ويلقنهم دروساً في أساليب غير مقبولة للتفاعل في مجتمع محترم. ونكمل غداً الحديث عن ظواهر قلة الأدب.