حدث ما توقعناه.. لم ترفض إيران ولم تقبل رسمياً مسودة الاقتراح الذي قدمه د. محمد البرادعي بتخصيب اليورانيوم الإيراني منخفض التخصيب في الخارج، رغم أن المندوب الإيراني رحب بهذا الاقتراح.. فإيران لم يكن لديها ترف الرفض وفي ذات الوقت لم تكن قادرة علي القبول أو راغبة فيه.، فالقبول بالاقتراح كان يعني تسليمها طواعية أكثر من ثلاثة أرباع ما لديها من اليورانيوم منخفض التخصيب لروسيا، وهي كمية لا تستطيع تعويضها إلا خلال عام كامل، أي أنها تعطل بذلك خططها النووية في تخصيب اليورانيوم، وربما ما هو أكثر، كما يعتقد الغرب، لمدة عام، في وقت تبدو فيه أنها تصارع الوقت، حتي تحقق أهدافها النووية قبل أن تفاجأ بحصار أو ضربة عسكرية. أما الرفض للاقتراح الذي قدمه د.البرادعي فهو يعني أنها قد أوقفت المباحثات بينها وبين مجموعة الدول الست مبكراً جداً، وأنها تقدم للولايات المتحدة مبرراً مناسباً لإقناع كل من روسيا والصين بعدم عرقلة فرض مزيد من العقوبات عليها، بل وتمنح الإسرائيليين أيضا مبرراً لزيادة ضغوطهم علي أمريكا والغرب من أجل توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية. لذلك.. لم يكن أمام الإيرانيين من سبيل سوي إفراغ مقترح البرادعي من مضمونه، ومحتواه، ثم الإعلان بقبولها به بعد ذلك.. وحتي يتسني لها ذلك لم تكتف إيران بالمطالبة بإجراء تعديل علي الكمية المطلوب منها تسليمها من اليورانيوم المخفض، وإنما تقدمت بطلب آخر يقضي بأن تتسلم أولاً الوقود النووي الذي ستحصل عليه مقابل اليورانيوم المنخفض التخصيب أو علي الأقل في وقت متزامن مع تسليمها اليورانيوم، علي أن يتم ذلك تدريجياً، أو في مدي زمني أطول مما تضمنه مقترح البرادعي والذي يبلغ قرابة الشهرين. وهكذا.. لم ترفض إيران جوهر اقتراح البرادعي وهو تقديم يورانيوم منخفض التخصيب مقابل تسليمها وقوداً نووياً لمفاعلها النووي في طهران، ولكنها بمطالبها الجديدة عطلت الهدف منه.. وفي ذات الوقت فتحت الباب لجر مجموعة الدول الست إلي مباحثات جديدة سوف تستغرق بالطبع وقتًا أطول، وهو الوقت الذي يضع الإيرانيون نصب أعينهم كسبه دائماً.. إيران تخلصت بردها الذي لم تقل فيه لا ولم تقل أيضا نعم وتخلصت من المأزق ورمت الكرة التي قذفتها الدول الست إليها إلي ملعبهم هم، فماذا هم فاعلون؟ إنه مأزق بالفعل.. صحيح أن الأوروبيين والأمريكيين سارعوا بإعلان أن الطلب الإيراني بتسلم الوقود النووي أولاً مرفوض، لكنهم لا يستطيعون إعطاء ظهورهم للإيرانيين الآن وإنهاء المفاوضات معهم ثم الانتقال إلي بحث فرض عقوبات جديدة علي إيران، لأن الروس والصين لا يحبذون ذلك الآن والمباحثات مع الإيرانيين ما زالت في بدايتها بعد. الأغلب.. أن الأمريكيين والأوروبيين مضطرون الآن هم الآخرون لمحاكاة الإيرانيين، أي ألا يقولوا لا وألا يقولوا نعم للطلب الإيراني بتعديل اقتراح البرادعي.. وإذا كان الأمريكيون سارعوا برفض التسليم الفوري للوقود النووي لإيران فإن الأغلب أنهم سيجدون أنفسهم يخوضون مباحثات مع الإيرانيين في إطار مجموعة الست حول الطلب الإيراني الثاني، وهو تخفيض الكمية التي يتعين عليهم تسليمها من اليورانيوم المنخفض التخصيب، خاصة أن الكمية التي اقترحها د. البرادعي تكفي المفاعل النووي في طهران لمدة عشر سنوات، وهي فترة قد تفوق العمر الافتراضي لهذا المفاعل النووي، أي أن الإيرانيين لا يحتاجون لكمية كبيرة من الوقود النووي، والمفاعل النووي الإيراني الآخر في آراك لا يحتاج لليورانيوم المخصب، إنما هو يعتمد علي البلوتونيوم. وإذا كان الأمريكيون والأوروبيون سبق أن تخلوا عن إصرارهم علي وقف عمليات تخصيب اليورانيوم في إيران، فإنه ليس من المستبعد أن يدخلوا في مساومة مع الإيرانيين حول الكمية التي ستتسلمها إيران من اليورانيوم المنخفض التخصيب.. إذا حدث اتفاق سيكون في الأغلب حول رقم وسط بين الكمية التي اقترحها البرادعي والكمية التي اقترحها الإيرانيون.. المهم أن البازار النووي بدأ.