طبقة بأكملها محشورة في المترو والأتوبيس والميكروباص، أجساد معجونة بروائح عطنة أنفاس خليط من بصل وثوم وسجائر ومومبار وخروج علي لحم بطن وصابون رخيص ودهون وعطور قديمة، أواني محشي ولحم بالدهن وطبيخ مسبوك لا يستقيم الذهاب إلي الشاطئ بدونها تختلط برائحة يود ورطوبة وحر وعرق وملح بحر علي أجساد نشطة وأخري خاملة. حارات مكدسة ومساطيل وراقصات وعاهرات ونصابون ومعتوهون وكل من يجاورونهم ويحاكمونهم ويدافعون عنهم... نجيب محفوظ يقابل خيري شلبي، دي سيكا يقابل بدرو ألمادوفار، والفرق درجة من درجات الهوس بالأخلاق، دفاعا عنها أو سخرية منها. أحداث تفضي لأحداث وتحليلات نفسية واجتماعية، تقسو أحياناً وأحياناً أخري تبرر وتفخم وتعزي "الطبقة"، كل نساء ورجال وشباب وأطفال الطبقة. البون الهائل الفاصل بين كتاب ومصوري ومخرجي "الطبقة" وبين تشيكوف في قصة مثل "السهل"، دزيجا فيرتوف في فيلم مثل "رجل يحمل كاميرا"، هو العزوف عن الدراما. لا شيء يحدث، تقف الحركة وحدها سنداً، من وإلي، بلا مبرر سوي فكرة الحركة، مبرر واهٍ لمجرد أن تبدأ وتستمر الرحلة, تعلو الأنفاس علي الأفكار تتعلق بالهواء، تثبت أو تلهث، الملل في قصة تشيكوف، اللهاث في فيلم دزيجا فيرتوف. الطبقة تختفي هنا والأخلاق تتهاوي معها، لا يبقي سوي ذلك الاختزال، حركة في ذاتها، بلا تحليل نفسي (فلتسقط الدراما، صيحة دزيجا فيرتوف في وجه أيزنشتين) وبلا "قصة". اللا تعاطف واللا قسوة يفضيان إلي هذا النوع من الفن، حياد المشاعر، حياد الأخلاق. ثم ملمح هنا ولقطة هناك والثرثرة عدو ألد من الأحاسيس. اللا أحاسيس قرينة الصمت، قرينة الوحدة الأعمق. فراغ، كل شيء بما في ذلك الزمن، يخضع لذلك الفراغ (الفروغ) من الأحاسيس. فويد أوف فيلنجز. الأحاسيس ترمي لطبقة أو تذكر بها، تلوك ببطء، تمضغ، تبتلع تهضم، ثم تفرز كلاماً لا يودي ولا يجيب عن الطبقة، عن تعقيد وأحلام وخيبة رجاء وصعود وانحطاط الطبقة. النقاد يكتشفونها في كل نص. يحولونها لقانون والمشاعر والأحاسيس معها يداً بيد. لذا فاختفاؤها مصدر هلع أكيد في العموم. ثرثرة المشاعر هي عكس "الأفكت" (خطفة القلب) صيحة الشعور المفاجئة، انتفاضتها، طعنتها النجلاء ثم خفوتها موتها لتحل محلها كارثة (ليس أقل ولا أكثر) كارثة أن يصبح العالم غير العالم. طعنة بالصورة، واللقطة في أصلها اللغوي هي شوت، طلقة رصاص، طعنة الأفكت أوفر دوز، جرعة مخدر زائدة، خاطفة. سم وفن، ليس كسم التحليل النفسي، ولا كسم التصور الاجتماعي (المتعاطف والقاسي معاَ)، سم من نوع آخر يقتل الثرثرة، يقتل ادعاء الفهم، ادعاء القسوة ادعاء الخيانة. في "السهل" وفي" رجل يحمل كاميرا" صمت وعزلة وتأمل أبيض وأسود. لا شيء سوي وهم الحركة، مكان لا يعي الزمن. حركة تحت شمس السهول الحارقة، أو حركة تستوعب كل موسكو، حركة طفل السهل الخامل الذي حملته عربة في رحلة لم يخطط لها، حركة حامل الكاميرا المهووس بالتكنولوجيا الذي يري أن عين الكاميرا أفضل من عين الإنسان. حركة أبدية لا تعي أبديتها. عادة الرجال الهوس بالزمان وعادة النساء الهوس بالمكان. حدس يلازمني منذ فترة ويستحق التأمل. تشيكوف ودزيجا فيرتوف ودولوز يعنيهم المكان أعتبرهم أمثلة (نموذجية) لفكرة التحول - امرأة. أيضاً يقتربون من الشرق بمعناه الأنثوي، شرق القلب، يعيدون الاعتبار للأفكت. كلام يستحق التمحيص، بسهولة يثير التهكم ويبدو بلا سند موضوعي، مجرد حدس يحمل شبهة التعصب أو السطحية، كلاهما مخجل. لكن ا ليوميات كتابة تتحدي الخجل، نستطيع معاً أن نحمل المسألة محمل الجد ونمضي في المشوار قليلاً. ما الذي يجعل الدراما صيغة تعبير مشبوهة؟ ما الذي يتكرر في الدراما ويصبح لفرط تكراره مجرد مهديء أعصاب، كتارسيس أرسطي للتنفيس عن النفس، الترويح عنها تذكرتها بأن لا جديد تحت الشمس وكل ما يحدث حدث لغيرنا، هناك علي المسرح أو علي الشاشة أو علي صفحة كتاب؟ ولماذا رغم ذلك، نتغذي عليها ولا نعود نتوقع غيرها، خبز يومنا؟ التوقع سلاح الدراما ذو الحدين، حد يقتل وحد يجرح فقط، في انتظار أن يحدث ما يغير هذا التوقع، يفاجيء، يهدم المعبد ويميت الأبطال ويخرج طليقاً لمنطقة أخري كانت فيما يبدو معتمة، غامضة، مهجورة. الدراما بناء عدو الخرائب. علي أنقاضها ينبني فن آخر، تشيكوف أحياناً، فيرتوف بلا شك، دولوز وهو يكتب عن بروست وكافكا دون أن يتوقف عند الحدوتة، دولوز وهو يكتب فلسفة بلغة الأدب. التوقع يجرح أحيانا.ً لا يميت دائماً. حركة دؤوب عليك أن تحافظ عليها حتي تفلت من أسر التوقع. في مقابل اليأس أمام نص أو فيلم أو تابلوه تعرف من بدايته نهايته، اتجاهه، مثاله، شبيهه، في خط لا يتعرج ولكن يصلك مباشرة للأصل، يكشف أوراقه بعنجهية تثير الضحك، يحيلك لما سبق وليس لما هو آت. تنتظر النهاية لمجرد أن يتأكد توقعك في البداية. أحياناً تقفل الكتاب بعد عشر صفحات من بدايته أو تغادر قاعة العرض قبل انتهاء الفيلم أو تمر مرور الكرام علي المعرض. وأحياناً أخري تجد خيطاً مسلياً أو مشوقاً، تستسلم لقدر الدراما، دراما كاتب متوسط أو مخرج مكرر أو رسام ينقش غيره أو نفسه، أمام عينيك علي مسمع ومرأي منك. يسقط ويأخذك معه. كنت أقول إن الحدس الذي تشوبه شبهة تعصب أو سطحية مخجل. الدراما أحياناً ما تكون مخجلة أيضاً، لمنتجها ومستهلكها، عندما تستدرجهما معاً لحقل التوقع المليء بالألغام. ألعب هذه اللعبة كثيراً، أستهلك دراما تستهلكني. وكثيراً ما يكون طموحي العاجز هو أن أفلت من أسر الدراما ومن براثن الطبقة، بما في ذلك طبقة "كتاب الطبقة". وصوت يقول بتهكم "وهل هذا معقول؟" آه، معقول، بدليل "رجل يحمل كاميرا" الفيلم الصامت الذي يعود تاريخ إنتاجه لسنة 1929، مثلاً. [email protected]