ستظل الحدود المصرية السودانية حدودا للتواصل والإخاء غريب أمر الحدود المصرية - السودانية.. إنها قضية من لا قضية والغريب أنها كلما أثيرت تم علاجها بالمسكنات لتفويت الفرصة علي المتاجرين بها.. فحكماء البلدين يعرفون أن وراءهما تاريخا مجيدا ليس من السهل تجاهله أو اغفاله لقيمته وتأثيره. مظاهر السطح علي الأرض واحدة.. والنيل الذي يجري واحد.. والأرض الزراعية علي الجانبين واحدة بالإنسان والحيوان والنبات حتي الأرض الصحراوية التي تمتد في شرق النيل بينه وبين البحر الأحمر بجبالها الشامخة، وأوديتها العميقة. الملتوية وبأشجارها البرية وحشائشها وأزهارها هي بعينها بين الشمال والجنوب.. والأراضي الصحراوية التي تمتد في غرب النيل تنتشر حتي أرض ليبيا والصحراء الكبري بصخورها ورمالها وكثبانها المتنقلة وواحاتها الغنية هي بعينها في الشمال والجنوب.. ليست حدودا طبيعية في هذا الركن من العالم ولكنها حدود من صنع الإنسان رسمها لكي تسير الأمور الإدارية واستتباب الأمن. لم تظهر الأهمية السياسية لتلك الحدود إلا بعد أن أرغمت مصر علي توقيع الاتفاقية التي فرضتها إنجلترا بما عرف باتفاقية الحكم الثنائي في 19 يناير 1899 فظهرت كلمة السودان لتشمل جميع الأراضي الواقعة جنوبي خط عرض 22 شمالا. إلي ذلك الخط تمتد سلطة الحاكم العام الإنجليزي في الخرطوم، وشمالها تبدأ سلطة خديو مصر وهي خطوط تحكمية مثلها مثل 43٪ من الحدود التحكيمية التي تحدد أغلب دول القارة. شهدت المنطقة نشاطا تجاريا ملحوظا بين أفراد من قبيلتي البشارية والعبابدة ويسهمون مع قبيلة الرشايدة العربية في نقل تجارة كبيرة بين البلدين، ليس تبادلا تجاريا فقط ولكنه يشمل العلاقات الإنسانية.. يتشاركون في الرعي برا وفي الصيد بحرا.. للتداخل القبلي ولأسباب ليس لها في الواقع ما يبررها أصدر مصطفي فهمي وزير الداخلية المصري في 26 مارس 1899 قرارا كان الغرض منه تعديل جزء من الحدود بتعديله إلي شمال وادي حلفا السودانية. وأدي ذلك إلي ضم 4000 فدان من جابني الأراضي المصرية لصالح السودان تعديلاً إدارياً وليس سياسيا.. فالخط السياسي لم يمس. ومع ذلك فقد غمر السد العالي المنطقة بكاملها ولم يعد هناك مبرر لإثارة الخلافات بشأن هذا التعديل. ولكن المشكلة بدأت من إنشاء مثلث حلايب بمقتضي قرار ذات الوزير في 4 نوفمبر 1902 ووضع منطقة علبة أو مثلث حلايب تحت إدارة المحليات السودانية بغرض إدارة شئون القبائل ولم شمل جماعة البشارية المصرية ووفقا لهذا التعديل الإداري تم تحديد مناطق البدو في الاقليم بما يعرف بمثلث حلايب المصري وقاعدته تقع علي خط 22 درجة شمالا وبطول 300كم وضلعه الشرقي علي ساحل البحر الأحمر بطول يبلغ 200كم يبدأ من جنوب حلايب علي خط الحدود حتي بئر شلاتين في الشمال، أما الضلع الغربي فهو متعرج، والمثلث الذي يشكل قيام حلايب يبلغ وفق هذا التحرير 18 ألف كم هي مساحة تقترب من مساحة دلتا وادي النيل.. وفي نفس القرار القائم علي وحدة القبائل وإخضاعها لنظام إداري ملائم تقرر وضع قبائل العبابدة التي تعيش جنوب خط 22 درجة شمالا لنفس النظام الإداري المصري علي الحدود ومساحة تبلغ تسع مساحة حلايب المصرية - ولا وجه للمقارنة بين ما أخذ من مصر وأصبح تحت الإدارة السودانية وبين ما أخذ من السودان وضم تحت الإدارة المصرية! إن خطاب وزير الداخلية المصري هذا كان من إعداد مدير المساحة الإنجليزي بالقاهرة إلي وكيل حكومة السودان بالقاهرة، يطلب فيه إدماج الحدود الإدارية والدولية ويطلب من وزارة المالية المصرية التي تتبعها مصلحة المساحة مقترحا عدم بيان ما يسميه بالحدود الإدارية المتعرجة من بئر شلاتين - تلاحظ أن وزير الداخلية المصري كان قد حضر من إنجلترا في 29 أكتوبر 1902 ووقع قراره في 2 نوفمبر 1902 بعد وصوله من إنجلترا بخمسة أيام!! يا للمصادفة! ومعروف أن الاتفاق الدولي يجُبّ أي قرار وزاري ليس له قوة الدولة، ومع ذلك فالقرار الوزاري جاء بنصه أنشئ لصالح أشغال إدارية لقبائل المحداب والبشارية والعبابدة في 12 فبراير 1953 عقدت مصر وبريطانيا اتفاق السودان الذي انتهي إلي إعلان استقلال السودان في 1956/1/1 ولقد تلاحظ أن مشكلة الحدود لم تكن مثارة إلا في عهدين: الأول: عهد حكومة عبدالله خليل وحزب الأمة فيما عرف بأزمة 1908 التي استغلها خليل في إثارة الشارع السوداني واستفاد من ذلك انتخابيا - والمرة الثانية في عهد الجبهة الإسلامية 1989. ظل الوجود المصري داخل حدوده لم ينقطع لحظة من إصدار تراخيص الشركات والأفراد المصريين وغير المصريين بل والسودانيين للعمل في مجالات التعدين والتنقيب في المنطقة ويرجع ذلك لعام 1915.. وأنشأت مصر معسكرات ونقاط مراقبة في المنطقة، وصدر قرار وزير الداخلية بإنشاء محمية طبيعية في منطقة جبل علبة في 1986/4/22 وإصدار أكثر من 5000 بطاقة تموينية بالإضافة إلي البطاقات الشخصية المصرية. وقع الاقليم في ازدواجية الأهداف السياسية - فالحق أن مصر لم تنظر إلي السودان منذ وحدة محمد علي إلا نظرة الأخ والشقيق ولم تقف طويلا أمام ما للسودان وما لمصر. في العلاقات بين الدول - بصراحة يجب عدم ترك الملفات للظروف، وإذا كان وزير الداخلية المصري قد أصدر قرارا إداريا يريد اخواننا في السودان الباسه لباسا سياسيا.. فيجب أن يفهم الطرفان كل الظروف التاريخية التي حدت بهذا، ولذا فحتي لو ظل التعاون داخل هذه المنطقة واجبا ومفترضا، فإن القبائل كلها لا تعرف مكانا للاستقرار فقبائل الحدود المصرية اليوم هي قبائل الحدود السودانية غدا.. ليس هنا فقط بل في كل البلاد الأفريقية. ولكن لا بأس من الحديث عن التعاون وتحديده في إطار إداري ليس إلا.. مع عدم المساس بالحدود السياسية بين البلدين، ويجب ألا ينسي السودان أن كل إجراءات مصر السابقة وتساهلها لم تكن باعتبارها دولة مجاورة ولكن باعتباره جزءًا من مصر ومصر كلها جزء منه.. هذا ما نواجهه الآن.. ونأمل في حل أخوي يطفئ لهيب اللاعبين بالنار، حتي ولو كان لأهداف انتخابية أو تحويل النظر عن مشاكل داخلية فمعظم النار من مستصغر الشرر.