بدأت الحكاية معه حين بدأ يتعاطف مع الناس.. ويحزن لحالهم، كان قسيساً في أحد أفقر المدن المحيطة بكاراكاس.. وحين تري الشوارع والحارات والأولاد مطلوقين في الشوارع، الكثير منهم حفاة لكنهم يبحثون عن مكان للعب، تكتشف أنهم يتشابهون مع غيرهم من الأولاد والبنات الفقراء في بلاد العالم النامي أو النايم في تصنيف آخر.. وكاراكاس هي عاصمة فنزويلا، دولة من أمريكا الجنوبية واللاتينية، وفي الفقر يصبح البشر قريبين من بعضهم البعض، وهو ما يؤكده هذا الفيلم وألف فيلم غيره عن المدن والأحياء الفقيرة في كل مكان، لكن ليست كلها تحظي برجل مثل الأب فرانز ويتاك، وهو الاسم المختصر لفرانشيسكو ويتاك الذي بدأ حياته مع الناس قسيسا وانتهي ثائرا ضد كل الأوضاع المرفوضة في كل مكان بالعالم وليس فنزويلا وحدها.. فقاد منذ سنوات قليلة 5002« حركة ضد غزو العراق وتظاهر مطالبا بتركه للعراقيين، وحركة أخري للتضامن مع الشعب الفلسطيني والمطالبة بحريته.. تحرر الأب فرانز من الكثير من الأشياء التي كانت تحدد حريته حين كان قسيساً يتبع منظومة المؤسسة الكاثوليكية في بلاده. ولم يكن الأمر سهلاً ولا فجائياً، وإنما أخذ من عمره حوالي خمسين عاما - البداية حتي هذه اللحظة التي نعيشها الآن، وسواء الذين عرفوه مثلي ومثل جمهور السينما في مهرجان الاسماعيلية السينمائي الدولي، أو هؤلاء الذين شاهدوا الفيلم في أماكن أخري، ثم هؤلاء القراء الأعزاء الذين أود أن يشاركوني المعرفة بهذا النموذج الفذ من البشر.. وفي الحقيقة فإن هذه المعرفة بما لا نعرفه، وما يجب أن نعرفه عن العالم حولنا هي الميزة الأولي للسينما التسجيلية والوثائقية وربما هي الخطيئة «الأولي لها أيضاً، وإلا ما كان وضع هذه السينما بأفلامها يصبح هكذا في بلادنا العزيزة، لدرجة أحبطت أجيالاً من صناع هذه السينما فذهبوا يصنعون الافلام في بلاد أخري حولنا، عربية اللسان وقادرة علي فهم أبجديات العصر وتمويلها أو انصرفوا عن صناعة الافلام التسجيلية الي صناعات ومهن أخري.. نحن لا ندين أحدا بعينه وانما مناخ بكامله، ووزارتا عملهما في أساسياته انتاج الأفلام التي تزيدنا معرفة بالعالم الذي نعيشه، في بلدنا وخارجه، وهما وزارتا الثقافة والاعلام بالطبع حتي لا يغلط أحد في العنوان فيظن أنها وزارة المالية أو الاسكان مثلا وإن كانت وزارة المالية مشغولة منذ فترة بانتاج افلام دعائية تحرضنا علي دفع ما علينا للدولة. نعود الي الفيلم الرائع الذي كان إحدي مفاجآت الدورة رقم 31 لمهرجان الاسماعيلية والذي عرض في يومه الاخير، الجمعة أمس الاول، وليسجل مفاجآت أخري منها أن مخرجه الشاب فابيو هو نفسه ابن البطل فرانز، وانه مخرج ومصور ومونتير، وهو ابن المنفي 82 عاما حيث ولد اثناء فترة النفي الطويلة لأبيه في بلجيكا عام 1891، ونما وتعلم هناك ومارس صناعة الافلام التسجيلية التي شغف بها منذ صغره. وطوال سنوات حياته كان أبيه يدهشه حتي قرر عمل فيلم عنه، خاصة بعد عودته هو والأسرة الي الوطن الأم فنزويلا بعد مجيء الرئيس شافيز للحكم منذ سنوات قليلة، واعلانه المصالحة العامة لكل من تم ابعادهم من قبل، ورأي فابيو كيف استقبل الناس أباه استقبال الفاتحين، وهو الذي تركهم لمدة ثلاثين عاما، وكيف احتفظوا له بكل ما قدمه لهم في القلب وكيف كبر الاطفال الذين دافع عنهم وعن حقوقهم وأصبحوا رجالاً ونساء يذكرون ما فعله لهم ولأهلهم، وهو كثير جدا، عاد فرانز بعد أن تغير كثيرا هو الآخر، لقد شلحوه من مهمته كقس يدعو الناس للفضيلة وحب الله ولكنه استمر يمارسها علي نحو آخر اهتدي اليه بقلبه وعقله، وهو أن الفضيلة تحتاج الي من يمهد لها الطرق وكذلك الايمان، واذا استطاع أن يفعل شيئا بيده من أجل هؤلاء البشر فليفعل حتي يجنبهم الانزلاق السريع نحو الرذيلة. اعتبر فرانز أن رجل الدين هو الذي يفتح عينه علي آلام الدنيا ويحاول ازالتها حتي يخفف احزان الناس ومصائبهم عمليا وليس بالكلمات فقط، سعي بيده وبلسانه لبناء مساكن بسيطة تستر الذين يقيمون في الشارع، وبناء كنيسة لمن لا يجدون، وبناء نفوس ضاعت بسبب ادمان المخدر، ومدارس غير موجودة، بيده كان يعمل ووراءه الناس، وحين عاد بعد سنوات طويلة، كان قد جاهد ضد أوضاع اخري تخص البشر في كل مكان في العالم، واستخدم طاقته الخلاقة في العمل الاجتماعي التطوعي، وفي الكتابة، وفي ممارسة فن النحت، وفي الدفاع عن الفقراء والمحتاجين. تحول الي رمز، وجبل في نظر الابن فقرر البحث عن سيرة أبيه التي لا يعرفها، ولمدة عامين ونصف العام استمر فابيو يقابل الناس ويبحث عن الوثائق والجرائد القديمة التي سجلت حكاية الاب منذ الستينيات، وجد أمامه كنزا من البشر والمواقف والأحداث والوثائق، فأصبحت المشكلة هي أن يختار من بينها الأكثر أهمية لأن مساحة الفيلم محدودة 08 دقيقة ونجح، ليس لأنه ابن أبيه، ولكن لأنه ابن الالتزام الانساني النبيل الذي تمثله صناعة هذه النوعية من الافلام وهذا النوع من العاملين بها، وايضا لخصوبة وثراء المادة التي اعتمد عليها في فيلمه، والتي أضطرته الي حذف كل ما يتعلق بأسرته، الأم ودورها المهم وشقيقاته البنات الثلاث، وهو شخصياً، كابن وحيد، فالفيلم تجرد من الذاتي من أجل الموضوعي وان كانت الذات بالطبع سبباً أساسيا في صناعته، فلولا قرب الابن من أبيه ومتابعته لما قرر عمل هذا الفيلم بداية، ولكنه أيضا حين بدأه لم يكن يعلم أنه هذا الرجل الكبير.. لهذه الدرجة، والذي نفي من بلاده لأنه غير مرغوب فيه، لم يدرك فابيو ويتاك كل هذا إلا بعد عودته مع أبيه إلي وطن لم يره من قبل، وأب لم يره من قبل.. علي هذا النحو.