منظومة القيم وسلم الأخلاق الذي يسود في أي مجتمع هما نتاج طبيعي لتراكم طويل للعادات والتقاليد والثقافة والدين، وبهذا التعريف وحتي بضعة عقود من السنين كانت منظومة القيم وسلم الأخلاق تتميز في مصر بعدة مظاهر بحزمة من السلوك تتمسك بقيم بعضها يمتد إلي مصر الفرعونية وبعضها مستمد من مصر القبطية، وأغلبها نتاج لمصر الإسلامية، وكان مجمل تلك المظاهر السلوكية والأعراف القيمية هي الشجاعة وإغاثة الملهوف والكرم والتسامح والأهم احترام القانون، وحتي وقت قريب كانت عادة التجريس المتوارثة من عهود سابقة مازالت تأخذ مكانها وإن كان قد تغير شكلها، وذلك لكل منحرف وسارق ومرتشي وفاسد. فكان السارق حقيرا والمرتشي منبوذا والفاسد هو جالب العار لأهله. كانت الأسرة متماسكة ولا تأثير للفقر أو الاحتياج علي هذا التماسك، وكانت القيم والشرف والأخلاق هي مسوغات احترام في المجتمع وعلامات رضا ومصاهرة بين العائلات بعيدًا عن القدرة المالية، كان هناك ما يسمي باحترام الكبير وليس بالضرورة أن يكون هذا الكبير هو الأب، ناهيك عن احترام الوالدين الذي نصت عليه كل الأديان السماوية وغير السماوية، كان هناك احترام للقانون يُحدث انضباطًا في الشارع الاجتماعي لا يلزمه عدد غفير من رجال الأمن بكل رتبهم ودرجاتهم. وكانت قيمة العمل تساوي الشرف والواجب والحياة، فما الذي حدث للمصريين؟ وما هذا التغيير إلي الأسوأ ولماذا انهارت منظومة القيم وكيف تدنت الأخلاق إلي هذا الحد؟ وما هي الأسباب؟ وما الذي جعلنا نصل إلي هذا التفكك وهذا الانهيار القيمي؟ وما الذي يجعل مصريين بكل أعمارهم يشاهدون في عرض الشارع من يخدش حياء امرأة أو من يتحرش جنسيا بفتاة أو من يقوم بخطف أشياء ثمينة من أحد المارة، ولا أحد يتحرك وكأن الشجاعة ماتت وإغاثة الملهوف تعبير لم يمر علي خاطر، لماذا يتسابق الجميع دون استثناء وفي المقدمة الحكومة ذاتها علي إسقاط القانون وعدم احترام تنفيذ الأحكام القضائية وكأن ذلك شجاعة وكبرياء؟ لماذا تحول التجريس الآن إلي دعاية مجانية تساهم في التصعيد الاجتماعي بعدما كان عارًا ما بعده عار. فالآن أصبح الانحراف بطولة والسرقة شرفا والرشوة جدعنة والفساد مجاراة للواقع الأكثر فسادًا، ما كل هذا كل الانهيار الأخطر للأسرة المصرية والتي كانت عماد المجتمع. ولماذا هذا الشبق للغني غير الشرعي والآتي بلا عمل ولا عرق بديلاً لكل قيم الشرف والأخلاق؟ لماذا أصبحت المصاهرة الآن مع المالك للمال والقادر علي الفساد والواصل الذي يستطيع تخطي كل الحواجز وفتح كل السدود للوصول لما يريد بعيدًا عن عرف أو خضوع لقانون؟ وكيف غاب احترام الكبير واندثر إكرام الوالدين الذي يطيل حياة الإنسان علي الأرض. وأين الالتزام بالنص القرآني الذي يحض علي احترام الوالدين إلي أبعد حدود الاحترام؟ وكيف وصل بنا الحد إلي أن يقتل الولد أباه وأمه وتقتل الأم ابنها وزوجها ويقتل الزوج أولاده وزوجته؟ أي بشاعة هذه وأي قيم بعد؟ هل هذا وغيره وغيره الكثير والكثير كان نتيجة لتغير العلاقة الاقتصادية واندثار الطبقة الوسطي الاجتماعية؟ هل هذا لسبب البطالة ولتدني سقف الحريات وغياب المشاركة السياسية الحقيقية ومبدأ تداول السلطة ونزاهة الانتخابات؟ هل هذا التفشي ظاهرة الفساد الذي عم وساد في كل الأوساط حتي أصبح وكأن الفساد هو أمر طبيعي ولا غبن عليه؟ هل السبب الواسطة التي تأخذ ممن يستحق وتعطي لمن لا يستحق؟ هل كان لتدني الخدمات التعليمية والصحية والثقافية حتي تم السيطرة للبديل وهو تلك الخدمات الخاصة مما خلق تفاوتا طبقيا وتعليميا وصحيا هي السبب لما نحن فيه؟ هل السبب في تلك الفورة غير المبررة لمالكي الثروات الجديدة من تجار الخردة وأصحاب الوكالات الأجنبية وأصحاب استيراد السلع التموينية والقمح الفاسد والمقاولات والمضاربة علي الأراضي الحكومية والذين تحقق لهم كل هذا من الثروات بتواطؤ صريح أو غير صريح من مسئولين حكوميين؟ هل ما نعيش فيه الآن ضمن أسبابه الهامة والرئيسية تلك الفشخرة التي نراها الآن والتي تمارسها تلك الطبقة الوليدة وغير الأصيلة في التركيبة الاقتصادية والاجتماعية المصرية تلك الفشخرة التي هي أقرب للملهاة وهي في عمق المأساة لأنها تتم وسط بحر من البؤس والفاقة؟ والأهم ألا يوجد تناقض مريع ومرعب لوجود تلك الحالة المأساوية في ظل تلك الحالة عالية الصوت وزاهية اللون من التدين سواء كان هذا علي المستوي الإسلامي أو المسيحي والتناقض هنا كيف تكون تلك الحالة من التدين (إلا إذا كان تدينًا شكليًاولا علاقة له بجوهر الدين ولا بصحيح الإيمان) وفي نفس الوقت تكون تلك الحالة المزرية من الانهيار القيمي والتفكك الأخلاقي، وهنا لابد من مخرج سريع لتلك الحالة المتفاقمة والمتسارعة في انهيار الشارع المصري فالشارع هو صورة مصر، ومصر مازالت أعظم وأجمل وأكبر من الذي يحدث، فهل تكون البداية لدي المؤسسات الدينية وكفي غيابًا عن دورها الديني والروحي، وكفي دخولاً في غير ما تملك وغير ما تقدر وعليها بأداء دورها وفقط حتي لا تتداخل الأمور وحتي نصل إلي مرحلة الإيمان الحقيقي لا التدين الشكلي، والنقطة الهامة الأخري فالقانون مسئولية القائمين علي تطبيقه أولاً، فإذا شعر المواطن بالإصرار علي تنفيذه من جانب المسئولين سيكون ملتزمًا بنصوصه وتعليماته بل يكون مقتنعًا بأن القانون هو مساندة له ضد الظلم والظالمين، فالضعيف بعيد عما سبق وغير القادر يشعر أن القانون لن يفيده وأن حقه لن يسترد بالقانون إذا لجأ إليه، وهنا تدور الدائرة ونظل فيما نحن فيه، فهل هذا في صالح المواطن أو في صالح الحكومة والنظام والأهم هل هذا في صالح مصر كل المصريين؟