وضع روحه علي كفه مثل الكثيرين من أنباء جيله.. فكان له الحظ أن يكون من بين أول من عبروا قناة السويس في القوارب المطاطية في اللحظات الأولي من الحرب. يقول حسين السيد البربري جندي الصاعقة الذي شغل موقع مدير شئون الافراد فيما بعد بإحدي شركات المنسوجات: اشتد عودي وصرت أقوي بفضل الجيش، هكذا بدأ حسين حديثه معنا عن فترة التجنيد التي قضاها بداية من شهر يوليو عام 1969 وحتي شهر سبتمبر عام 1974 وهي فترة قد يكون عاني خلالها الكثير من الصعوبات ولكنه يعزي لها الفضل في كل ما اكتسبه من قوة ورباطة جأش ساعدته علي خوض معركة الحياة بقوة، كما اكتسب جسداً قويا نشيطا يتعجب البعض من طاقاته مقارنة بعمره 62 عاما. ويعزي تلك الطاقة إلي فترات التدريب الطويلة الصعبة التي عاشها عسكري الصاعقة.. فقد يستعد لطابور الصباح وهو مرتد ملابسه العسكرية الكاملة بما فيها الخوذة والشدة الثقيلة والسلاح ليمشي مسافة لاتقل عن 20 كيلو متراً في مقر تدريبه! كانت وجباتهم الغذائية محكومة بالعدد.. وفور أن ينتهي القائد من العد يضع الجميع الطعام في اطار برنامج تدريبي صنع منهم رجالاً يتحملون المشاق الصعبة واجتياز الحرب وهم صائمون متناسون تماما الجوع والعطش والتعب! لكن الحصول علي وجبات الطعام لم يكن بنفس السهولة بعد انتقاله لمنطقته العسكرية المواجهة لشط القناة فقد ضربت القوات الاسرائيلية سيارة التعيين التي تحضر لهم الطعام فاستخدموا الدراجات والحمير لنقل المؤن بأنفسهم ولكن كل هذه الوسائل لم تسلم هي الأخري من الرصاص الغادر لقوات الاحتلال فتفتق ذهنهم الي استخدام فلنكات السكة الحديد لنقل الطعام بعيدا عن أعين الاعداء. وما زاد من رباطة جأشه أصدقاؤه الذين يصفهم بأوفي الاصدقاء فقد كانوا حريصين علي التواصل مع بعضهم البعض واللقاء رغم تفرقهم في عدة مناطق. يصف البربري حرب الاستنزاف بأنها كانت أصعب وأكثر مشقة من حرب أكتوبر نفسها، ويذكر أن الحصول علي اجازة لم يكن أمرا سهلا وكانت مدتها قصيرة ويضطر للمشي مسافة 12 كيلو متراً ليلاً حتي لا يطاله رصاص العدو وهو ما عطله عن الزواج ولكن أسرته كانت فخورة بأن ابنهم يحارب في الجبهة من أجل عزة بلاده.. وهو ما تكلل في النهاية بنصر أعجوبة مازال يدرس حتي الآن داخل أعرق القوات العسكرية.. فذات مرة سأل أحد زملائه المجندين منذ 8 سنوات قائدهم: حنطلع امتي من الجيش فرد عليه بصرامة شديدة طلع إسرائيل الأول وأنا أطلعك من الجيش وهو ما زاد من قوة عزيمتهم لقهر العدو الاسرائيلي. ذكريات ليلة العبور مازالت محفورة في ذاكرته لانها حدثت بالامس.. يذكر أن قائد بورسعيد اجتمع بهم ليحدثهم عن عملية تدريب في اليوم التالي اعتادوا القيام بها، ورغم لهجته الحادة الصارمة إلا أنه سمح لهم بمشاهدة مباراة فريقي الاتحاد السكندري والزمالك وهو ما تعجب منه آنذاك وخاصة أنه شاهد تسيبا لم يره من قبل من ارتداء بعض الجنود للخوذة مقلوبة والشارة العسكرية بصورة غير صحيحة ولكنه كان جزءاً من خطة محكمة عرفها بعد ذلك.. ثم استقر أفراد الكتيبة في موقعهم المعتاد وعسكروا حتي الصباح بعدها أمر القائد بخروج بعض الجنود لمص القصب والاستحمام في القناة وهو ما رصدته أبراج المراقبة الاسرائيلية ثم انصرفت بعد تأكدها من عدم جديتهم بعدها خرجوا وبدأوا في نفخ القوارب المطاطية وربطوا بينها بالحبال والقائد يصيح حنحارب وهم في حالة جمعت بين الفرحة لقدوم اللحظة التي انتظروها طويلا والحماسة الشديدة للنيل من العدو الاسرائيلي.. وفجأة غطت السماء غمامة من الطائرات فنزلوا بالقوارب حتي وصلوا البر الثاني واجتازوا الساتر الترابي المليء بالالغام بدون سقوط ضحية واحدة وفي مدة لم تتجاوز ربع ساعة وهو ما هز قلوبهم بترديد كلمة النصر الله أكبر. وفي الثامن من أكتوبر تمكنوا من ايقاع 52 أسيراً وكانت لحظة لها بريق خاص في نفوسهم فقد أثلجت صدورهم بنشوة النصر واستمرت سعادته عندما شعر بالحفاوة الشديدة من الشعب كله تجاه كل من يرتدي الزي العسكري وهو ما أشعره بحلاوة النصر والقوة التي مكنتنا من أن نفرض شروطنا علي العدو الاسرائيلي لاستخلاص كامل ترابنا الوطني.