أجدادنا في المشاعيات القديمة كانوا يقيمون المسابقات بين القبائل، ولا يرضون أن ينهوها بمنح الفائز جائزة، وإنما بتوزيع الغلال علي الجميع، في المجتمعات الرأسمالية وشبه الرأسمالية، والاشتراكية التي كانت مسكونة بدم فاسد هو دم اشتراكية الدولة، أصبحت الجوائز إحدي آليات التمييز والاصطفاء والتفوق، إحدي آليات تعظيم الفرد وعزله، وعلق بها طابور من العيوب البنيوية والخلل الخلقي، علق بها والتصق، كأن تظل الجوائز تابعة للإيديولوجيا الحاكمة، وخادمة لها، ونافية لغيرها، في مجتمعاتنا التابعة والمشوهة ظهرت وأضيفت عيوب جديدة، هي من صميم تلك المجتمعات، مثلما تلقبت بعض البلدان بأسماء حكامها، تلقبت الجوائز أيضا، فصرنا محكومين بقوة إضافية، أذكر أننا كنا في شهر ديسمبر من كل عام، نتطلع إلي أحدث الكتب الصادرة فورا، لأنه الشهر السابق علي معرض القاهرة الدولي للكتاب، ولأنه أيضا الشهر السابق علي استفتاءات الرأي حول أفضل كتب العام المنقضي، وذاكرة الاستفتاءات ضعيفة لا تذكر إلا آخر ما قرأت، في أيامنا، أصبحنا في زمن الرواية، وأصبح موسم نشر الروايات يشمل شهري يونيه ويوليو، ليتوافق مع مواعيد التقديم لجائزة البوكر العربية، ولكي لا تنسي ذاكرة الناس عموما وذاكرة لجان تحكيم البوكر خصوصا تلك المقالات المكتوبة عن هذه الروايات، وعلي هامش الجائزة تأسست أخلاقيات مصاحبة، كأن نشهد بأعيننا ذلك السعي الملح إلي توثيق العلاقات وتوطيد الأسباب وترويج السمعة وزم المنافسين إلخ إلخ، ليس غريبا أن تكون المراكز الأكثر اهتماما بالإعلان عن جوائز ذات قيمة مالية هائلة خليجية الهوية، لأسباب كثيرة أقلها رغبتها في أن تحل محل المراكز القديمة، وليس غريبا أن يكون المحكمون محصورين في أسماء معدودة، لأنهم الأشخاص الأكثر تلبية لرغبات الجهات مالكة الجوائز، لرغبات ساداتهم، في القاهرة أصبحت جوائز الدولة شباكا ضيقة لصيد المبدعين وتأليف قلوبهم، وهي غالبا ما تأتي مسبوقة بطقوس ومقدمات، كأن تسعي إلي أمين المجلس، وتستضيفه، وتقيم له حفلات التكريم، بمناسبة صدور كتاب جديد له، أو حصوله علي وسام، أو قرب إحالته إلي التقاعد، أو استحمامه أمس الأول، أو عودته من المصيف، أو شفائه من مرض، أو دخوله في غرام، أو النوم فجأة مع زوجته إلخ إلخ، كأن تلاحقه في كل الاحتفالات، وتعد كلمة عن أفضاله، كأن تخاصم أعداءه الذين هم أصدقاؤك وسوف تجد ألف سبب وسبب، كأن تتعفف وتكون وقورا وديعا مهذبا مثل ورقة نشاف، فيسعي وراءك أمين المجلس والأمين كلمة مشتقة من الأمن والأمان وليس من الأمانة، كل ما فات يمكن أن تسميه موسم التكاثر، ولما يأتي موسم الولادة، سوف يكافئ المجلس عشاقه بجوائز علي مقاسهم، مقاس التفوق، أو التقديرية أو مبارك، وسوف يتسلح بالحجة الدائمة أن الذين يختارون أسماء الفائزين هم صفوة علماء مصر، ولا يجب المساس بسمعتهم، (تري لم تري لم)، والصفة هؤلاء أغلبهم أناس مأنوسون طيبون ودعاء لطفاء ذوو مطالب، ومجموع عددهم هو الأقل، لأن بقية الأعضاء من كبار موظفي الدولة يمثلون الأغلبية، وهؤلاء أغلبهم مأمورون جاهلون غير لطفاء وذوو مطالب أيضا، في القاهرة وفي بيروت وفي غيرهما، يتردد هذه الأيام أن جائزة البوكر محسومة لرواية بعينها، وذلك بناء علي الوعود التي يطلقها سماسرة جدد نجحوا في أن كونوا وسطاء كل الجوائز، وأفادتهم خبراتهم في اللعب علي حبال الغرب المادي، وأكسبتهم مهارة اللعب علي حبال الشرق الفنان، والجوائز مثل الجواسيس أو الجواميس تعيش متضامنة ومشدودة في حبل من مسد، ومثل آلهة الظلام يتوالد بعضها من فروج بعض، جائزة الدولة التقديرية التي منحتها الدولة المصرية لسيد القمني أحاطتها شبهات، منها عدم التحقق من صفة القمني العلمية، هل هو دكتور أم غاوي مظاهر، والأخيرة جريمة انتحال لا يجوز لمجتمع رشيد أن يصوغها بجوائزه، ومنها ما يقال عن أن جهة ترشيحه، وهي أتيلييه القاهرة، رشحته في مجال العلوم الاجتماعية، وحق الأتيلييه مقصور علي الترشيح في مجالات الآداب والفنون فقط، هذا الخطأ الشكلي برز كمخرج وذريعة يمكن أن تريح المسئولين، وتجيز لهم اتخاذ أي قرار، جائزة القذافي العالمية للآداب، والتي تصل قيمتها مأتي ألف دولار، تأمّل كلمة العالمية واضحة وأنت تتصور أن بعض العذاري سيقرأنها ويشهقن اشتهاء رغبة، ومع ذلك فقد رفض الغبي خوان غويتسولو الترشيح لها، وخوان أديب إسباني مرموق وصاحب دور في الدفاع عن القضايا العربية والحماسة للأندلس، وبسبب رفضه أصبح رجلا غير أخلاقي موقفه ينطوي علي شيء من المزايدة، ولكنه بصورة أخري جاء بمثابة دعاية مجانية أفادت الجائزة وصنعت لها ضجيجا، (تري لم تري لم)، جائزة ال39 والتي مقرها هذا العام وهو عام دورتها الأولي، بيروت العاصمة الثقافية للكتاب، أول لجان تحكيمها تكونت من إلياس خوري وهدي بركات وماهر جّرار وعبده وازن وكلهم محترمون، ثم اعتذر الثلاثة الأول، وتردد أن السبب هو التفاوت بين المبالغ الطائلة المرصودة للإنفاق علي الجائزة، والمكافآت الهزيلة المحددة لأعضاء لجنة التحكيم، تشكلت لجنة جديدة تضم علاء الأسواني وعلوية صبح وسيف الرحبي وعبده وازن وكلهم أيضا محترمون، فجأة اعتذر علاء، وفي مقالة نشرها بالإنجليزية، وبعد تحية بروتوكولية موجهة إلي صموئيل شمعون وزوجته، صموئيل الذي أصبح اسمه يتردد كوسيط لكل الجوائز، ومعه يتردد اسم ماجي عضوة مجلس أمناء البوكر، وصاحبة مجلة بانيبال وزوجة صموئيل، بعد التحية عرض علاء أسباب اعتذاره، للعلم الجائزة ستُمنح ل39 أديبا عربيا شابا، عمر أيهم أقل من 40 سنة ويكتبون بأية لغة، ما يرتب ضرورة إجادة لجنة التحكيم للغات المختلفة، وضرورة تفرغهم لفترة طويلة إذا كانوا سيقرأون فعلا ما يصلهم من إبداع، اعتذر علاء لأنهم أبلغوه أن عدد من تقدموا حتي الآن مائة شخص فقط تقريبا، وطلب بضرورة توسيع رقعة الإعلان والدعاية لتحقيق العدالة والمشروعية، ووافقوه ووعدوه ولم يفعلوا، ثم اكتشف فوق درج مكتبه كابوسين آخرين، أن من سيقومون بتصفية الأعمال واستبعاد الرديء منها واستبقاء الصالح الذي سيتم عرضه علي لجنة التحكيم، هو مجلة بانيبال ذاتها، كأن الانتهازية الخالصة والسيادة المطلقة هما معا سلطان قانون الوجود، وأن نصف عدد الفائزين لابد أن يكونوا شبابا مشهورين، يمكننا أن نتخيل أسماءهم دون أن نخطئ كثيرا، ولم يستطع علاء أن يتحمل وجود الكابوسين علي مكتبه، طاب باستبعادهما خاصة أن مسألة الشهرة التي لها أسباب كثيرة غير الأدب ذاته، التي لابد أن علاء سيحرص علي التبرؤ منها، في كل مناسبة، بما أنه هو نفسه صاحب شهرة الغريب أن الأجانب عندما يلتصقون بالعرب يأخذون عنهم أسوأ ما فيهم، لذا لم يوافقوا، وانسحب علاء، وفيما بعد فطن المنظمون ومعهم السماسرة إلي ضرورة الذهاب إلي البحر وصيد ناقد كبير يرأس لجنة التحكيم ويمنحها بعض الأهلية، واهتدوا إلي السيد جابر عصفور الأكيد أن عصفور وفضل هما الاسمان الأكثر دورانا في كل لجان التحكيم العربية، ربما لأنهما أكثر العرب عروبة من الخليج إلي الخليج حيث لم يعد المحيط موجودا، في المشاعيات القديمة، كانت المسابقات بغير جوائز فردية، في مجتمعاتنا التابعة صارت المسابقات بغير معني، (تري لم تري لم، تري لم تري لم).