وصلتُ إلي مشهد أحبه في فيلم أربع جوازات وجنازة، وأنا علي حافة الهمجية، مع رأس الأرنب المسلوق، وطرف الملعقة، ومُحاوَلَة اقتلاع عينيه من محجريهما، تمهيداً لكسر عظام جمجمته بين أقصي اتساع أستطيعه لجانب فكي، وصولاً إلي فصوص المخ، مهملاً اللسان، وهو مشهد تأبين، يستعين فيه صديق المُتوفي، بقصيدة شهيرة للشاعر الإنجليزي أودن، لحن جنائزي حزين، وعلي أثر الانفعال، وقبل أبيات القصيدة، وأثناء الإعلان عن سر وصْفِة طبق البط بالموز، وهو طبق أجاده المُتوفي، يفتح رجل عجوز فمه، ويغلقه سريعاً، والترجمة الحَرْفية الصامتة للشفتين لا يستطيع أحد إخراجها عن كلمة من حرفين: يا، بكل بلاغة السنين، وخبرة التعبير، يمزج العجوز، في لقطته الوحيدة سريعاً بين الابتسام والتثاؤب، بين تليين مِفَصَّلات فكَّيه، وبين إرجاع الرأس والجذع للخلف، وغرْس الذقن في جلد الرقبة، بين عزْم النداء ولا جدواه، وبين التَصَعُّب علي أحوال الدنيا، بل هي بلاغة المخرج في الأساس، الذي استطاع في لقطة واحدة ثانوية، حفرَ أداءٍ لا ينسي. أوقفوا الساعة، اقطعوا التليفون، امنعوا الكَلب من النباح، واللهاث بعظمته. صَمْتٌ. بيانو يعزف، وصوت يئن. احضروا التابوت إلي هنا، واقيموا الحِداد.اجعلوا الطائرات تحوم فوق رؤوسنا، وتكتب علي صفحة السماء رسالة: قد مات. وعلي أعناق الحمام الأبيض اربطوا شارة الحداد. دعوا رَجُل المرور يلبس قفازات من القطن الأسود. كان يمثِّل لي الشَمَال والجَنوب، الشَرق والغَرب. كان أسبوع عملي، وأجازة الأحد. كان ليلي، ومنتصف ليلي، حديثي وأغنيتي. لطالما ظننتُ أن الحب يبقي للأبد، لكنني كنت مخطئاً. النجوم لم تعُد مرغوبة الآن. فرقوا كل واحدة عن الأخري. احبسوا القمر. شردوا الشمس. اسكبوا المحيط بعيداً عن هنا. اكنسوا أوراق الخريف. الآن لا شيء مطلقاً يمكن أن يأتي بأي خير. سمعتُ بعد نفي العينين واللسان علي جانب، ومصمصة الممرات والدهاليز في الرأس المُهشَّم، صرخةَ أرنب آخر، من زمن طفولتي. ستي أم أبويا تقترب علي حوض المطبخ بشفرة السكِّين، وأمي تُخلي مكاناً في رقبته البيضاء، للشفرة الماضية، وفجأةً يفتح الأرنب فمه بصرخةٍ مؤلمة، شبه إنسانية، وتظهر سنتاه الأماميتان. كان خيط الدم يسيل في البداية منفصلاً عن فروته البيضاء. بأصابع ملتاثة رفعتُ سمَّاعة التليفون علي الرغم من تحذير أودن. كان الموعد مع الصديق الصحفي الذي وعدته بحديث عن كتابي الأخير. وضعتَ كلمة يوميات علي كتابك. ما النوع الأدبي الذي تنحاز لكتابته؟ الكتابة عندي خليط مُهجَّن، لا أستطيع تحديد نقاء لها، اللهم إلا نقاء الأسلوب.المصادر تُحرِّك الكتابة، وليس الشخوص، أي أن ما يحركني، ليس حياة الشخوص الواقعية، بل يحركني موتها وتحنيطها بين دفتي كتاب أو فيلم. مَشَاهِد من أفلام، أدبيات لمخرجين، كتبوا عن السينما، برجمان، تاركوفيسكي، بازوليني. هي كتابة مفتوحة أستطيع وضعها تحت صيغة كبيرة عريقة مثل اليوميات، المفارقة أن صيغة اليوميات في أحيان كثيرة، تعتمد بشكل أساسي علي التاريخ، أقصد التسجيل التاريخي، كتابته الصورية البسيطة، نفاق اليوم والشهر والسنة، فضَّلتُ عليه تجريد الأرقام، تبدأ اليوميات برقم واحد، وتنتهي إلي ستة وخمسين. هل صيغة اليوميات أنسب لمن يريد الحرية من قيود الرواية أو القصة القصيرة؟ كنت بحاجة لصيغة كبيرة أكتب تحتها، فعلتُ هذا في رواية الرسائل، وهي آخر عمل لي قبل اليوميات، لكنني في الكتب السابقة كنتُ مُقيداً بشكل ما، كنتُ مُلزماً أمام نفسي بالحد الأدني من احترام القواعد الدرامية الأرسطية، وعندما أقول لكَ: الحد الأدني، فهو ليس كذلك عند كثيرين. مع اليوميات قطعتُ الحبل السُّري، وانجرفتُ مع التيار، وخرجتُ في النهاية من أذن الرواية العربية، علي أثر أكْلة كِرْشة بالدِمْعة، ومُسهِّل قوي، كما خرج جارجانتوا بطل رابليه من أذن أمه. الخروج علي الكبار.. رأيكَ في إدوار الخراط؟ ما كتبته عن بطل إدوار الخراط في ثلاثيته رامة والتنين، والزمن الآخر، ويقين العطش، هو أن بطله ميخائيل ليس له وصف جسدي داخل الثلاثية، كما لرامة. كان هذا الوصف هاماً في عمل إيروتيكي، غايته فعل الحب. إن تغييب التشريح الفسيولوجي لميخائيل، يجعل ثلاثية إدوار الخراط، أدب استمناء، ذكورياً، لغوياً في أحس الأحوال. ليس هذا ما كنتُ أعتقده منذ عشرين سنة. رأيي الآن في إدوار الخراط، هو تصفية حساب مؤلمة مع ذوقي النفي. ابتعاد الكاتب عن الزواج والعمل في مؤسسة والعلاقات الاجتماعية.. مؤسسات نزيف الوقت علي حد تعبيركَ؟ أري أنها فعلا مؤسسات تهدر الوقت كثيرا، فالالتزام في مكان معين، أو مؤسسة سواء أكان عملاً منتظماً، أو حياةً زوجية، تُعطِّل الكتابة، أو كأنّ الكتابة هي التي لا تسمح بأشياء أخري معها، يجب أن يكون وقتكَ كله لها، أو هناك البعض يري هذا، لكنَّ هذا لا علاقة له بقيمة المادة المُنْتَجَة، وإلا لأصبح الأمر بسيطاً، ولأصبح البعد عن المؤسسات الاجتماغية شرطاً للكتابة الجيدة. أنا أعتبرُ التفرغ للكتابة هو عربون محبة للمهنة، علي طريقة الصوفيين، وأن مهنة الكتابة لا تقبل إلا بكَ كُلكَ، لكنها لا تقدم أي وعود، وأنا أقبل بهذا الشرط المجحف علي سبيل القربان، وكأنني أريد للمهنة أن تشعر أمامي يوماً بذنب الجفاء.