قلت لك من قبل إن عناصر الدراما المصرية كما استخلصتها من كل ما قرأت وشاهدت من أعمال، هي ثلاثة.. الهم والاهتمام والبهجة. وفي غياب هذه العناصر لا تكون الدراما المعروضة أجنبية أو غريبة عن المصريين فحسب، بل تكون نوعا من الغش الفني ناتج من الضعف وانعدام النضج وقلة الوعي من المستحيل أن يغذي احتياجا حقيقيا لدي المتفرج وهو عنصر الفرجة الذي بدونه تصبح مشاهدة أي عمل فني ضربا من العذاب. وهدفي هو أن أنقل إليك علي قدر المستطاع نصيبي من الخبرة والتجربة لتأخذ منها ما أنت في حاجة إليه وتحتفظ بالباقي في مخازن عقلك أو تلقي به في سلة المهملات. ما سأقوله لك، كنت في سنك أحلم بأن أجد شخصا يقوله لي ففي كل لحظة كانت تقفز إلي عقلي عشرات الأسئلة التي كنت أتمني أن أجد شخصا يقدم لي إجابات عنها، فقررت في هذه المرحلة من العمر عمرك وعمري أن أقدم لك بعض ما حصلت عليه. في المركز الثقافي البريطاني ، منذ سنوات طويلة لست أذكر عددها دخلت علينا الفصل السيدة ماري سويلم وهي انجليزية مصرية وقالت لنا: هذه المرة، لن أوجه لكم أسئلة.. أنتم من سيسأل وأنا سأجيب.. اسألوا كل الأسئلة التي تطرأ علي خيالكم. قالت ذلك وألصقت علي السبورة في المنتصف تماما صورة فوتوغرافية لفتاة شابة جميلة. مرت لحظات قبل أن يندفع الطلبة في توجيه الأسئلة: ما اسم هذه الفتاة.. من هي .. كم عمرها.. ما هي جنسيتها.. هل هي آنسة أم هي سيدة متزوجة.. ماذا تعمل؟ ردت المدرسة بسرعة وتدفق علي كل الأسئلة، اسمها فلانة.. في حوالي الثلاثين من عمرها.. آنسة.. أمريكية.. تعمل سكرتيرة في شركة أمريكية في طوكيو. سكتت المدرسة وساد الصمت للحظات وكأن رصيد الأسئلة قد نفد، سألتها: هل هي تعاني من مشكلة.. ما هي مشكلتها؟ أجابت في حماسة وكأنها كانت في انتظار هذا السؤال: نعم.. لديها مشكلة.. هناك علاقة حب تربطها بهذا الشخص الذي يعمل مديرا للشركة، قالت ذلك وألصقت صورته علي السبورة بجوار صورة الفتاة، عدت أسألها: وما هي المشكلة في ذلك؟ علي الفور ألصقت صورة ثالثة علي السبورة لسيدة متوسطة العمر ثم أجابت: هو متزوج من هذه السيدة. هكذا توالت الأسئلة والإجابات ومع كل إجابة كانت تضاف صورة جديدة لشخص ما علي علاقة ببقية الشخصيات، ومن خلال الأسئلة والإجابات بدأت تتخلق ملامح المشكلة أو بمعني أدق الدراما. لم تكن الحصة عن الدراما أو فن كتابة السيناريو، بل كانت ضمن منهج دراسة اللغة الانجليزية، يومها تساءلت: يا إلهي.. إذا كانوا يقومون بتدريس اللغة بهذه الطريقة المبدعة المنشطة للعقل البشري.. ما هي مناهجهم إذن في تدريس فن كتابة السيناريو؟ في أحد الامتحانات الشهرية قمت بالإجابة عن كل الأسئلة، وعندما بدأت في كتابة ال composition فوجئت بأن المتبقي من الوقت هو عشرون دقيقة فقط فقلت لها: أنا كاتب محترف بمعني أنه يلزمني وقت طويل لكتابة أي موضوع.. تستطيع ابنتي أن تمسك بالقلم وتكتب فورا أما أنا فيلزمني وقت طويل جدا للتفكير فيما أكتبه.. أنا عاجز عن إنجاز أي شيء في العشرين دقيقة الباقية. فردت علي ببرود واستياء: اسمع.. أنت كاتب مشهور خارج هذه الغرفة فقط.. أما هنا عندي فأنت مجرد طالب.. اتفضل اكتب. هي علي حق، أنا هنا طالب جاء يتعلم وعلي أن التزم بما يفرضه علي المعلم، فأمسكت بالقلم وانهمكت في كتابة الموضوع، لم يكن موضوع إنشاء طبقا للمعني الشائع في مناهجنا، بل كان سطرا أو أقل ،في قصة مطلوب إكمالها، كان السطر يقول.. عندما رأيته في المطار شعرت بالخوف.... وأكملت القصة في أقل من عشر دقائق، لمع المشهد في ذهني في أقل من ثانية، أنا في المطار أغادر للعمل خارج مصر، وفجأة شاهدته عن بعد، إنه الضابط الذي كان مكلفا بتعذيبي في المعتقل منذ عشرين عاما، لابد أنه قد جاء ليمنعني من السفر، لا يجب أن يراني، خرجت من بوابة بعيدة، اجتزت الجوازات، الحمد لله.. أخيرا أنا في المنطقة الحرة، لم أنج بعد.. وفجأة شاهدته قادما من بعيد، يا للكارثة الرجل يتقدم نحوي، قلبي يكاد يتوقف، توقف أمامي وهو يمد لي يده بورقة، قال في ابتسامة: لقد عرفت أنك وجدت عملا في بلد عربي.. منذ وقت طويل وأنا أفكر في الاعتذار لك.. أنا أطلب منك أن تسامحني.. كنت أنفذ الأوامر.. أنا أعرف كم أنت متسامح وطيب القلب.. وأعرف أنك ستغفر لي ما فعلته بك.. أنا الآن أبحث عن عمل.. أرجوك.. هذه الورقة فيها ال C.V الخاص بي.. أنا علي ثقة أنك ستساعدني. بعد يومين جاءت المس ماري ومعها أوراق الإجابة، قالت عدة ملحوظات ثم تصفحت ورقتي وقالت: من المهم للغاية أن يكتب الكاتب في لغة أخري وأن يحتفظ في الوقت نفسه بأسلوبه في لغته الأصلية. سعدت بكلمتها، كما أنا سعيد الآن بحديثي معك.. قابلني الاثنين المقبل في نفس المكان لنقوم معا بعمل تشريح درامي لهذين المشهدين لكي أشرح لك ما فيهما من أسرار إبداعية.