فاجأ أرييل شارون، الأب الروحي لسياسة الاستيطان، العام بإفصاحه في مطلع فبراير عام 2004 عن الخطوط العريضة لخطته المتمثلة في الانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات المتواجدة فيه وعلي الرغم من المعارضة القوية التي أبداها المستوطنون لتلك الفكرة، فإن شارون أبدي صلابة في موقفه، بادئًا مشاورات مع حزب العمل للدخول معه في تحالف إذا ما اقتضت الضرورة ونجح المستوطنون في التأثير علي الأغلبية البرلمانية التي يتمتع بها في حال ما أقدم علي وضع خطته موضع التنفيذ. وفي الثالث والعشرين من أغسطس 2005، وفي أقل من أسبوع واحد انتهت إسرائيل من عملية إخلاء 21 مستوطنة مقامة منذ ثمانية وثلاثين عامًا في قطاع غزة المحتل منذ حرب يونيو 1967، وبالتوازي تم إخلاء أربع مستوطنات منعزلة شمال الضفة الغربية، وعلي الرغم من التعويضات المجزية التي قدمتها الحكومة واعتذارها المتكرر علي أعلي المستويات، فإن ذلك لم يمنع المستوطنين من التساؤل عن الأسباب التي تدفعهم إلي مغادرة جزء من أرض الأجداد بعد أن استقروا فيها لعقود حظوا خلالها بجميع أشكال الدعم والتأييد والمساعدة من جميع الحكومات المتعاقبة. وقد أسفر كل ذلك عن اندلاع مظاهرات صاخبة طالبت بإلغاء العملية برمتها، في حين توافد المستوطنون المتشددون من الضفة الغربية لمساندة أشقائهم الذين يمرون بمحنة في القطاع، زاد من ضخامتها وتأثيرها النفسي أنها لم تكن نتيجة ظروف قهرية تعرضت لها الدولة العبرية كما كان عليه الحال في فترات تاريخية بعيدة سابقة، وإنما فرض بقرار اتخذه الأب الروحي للمستوطنين، دون أن تبدو في الأفق بوادر أية ضغوط تبرره. وفي مثل تلك الظروف كان من الطبيعي أن تتردد شعارات نعت فيها المستوطنون شارون بالخيانة، وعلي الصعيد السياسي، قدر بنيامين نتيناهو، منافس شارون علي رئاسة الليكود، أن الوقت قد حان ليغادر الحكومة، وإذا كان التبرير الذي تم تقديمه آنذاك تمثل في تسجيل اعتراضه علي الانسحاب من غزة، فإن الحقيقة كمنت في رغبته في الإعداد لعودته إلي مركز القرار السياسي من خلال تقدمه بالترشح لرئاسة الليكود واستثمار الانتقادات اللاذعة والمتصاعدة التي تعرض لها منافسه داخل اللجنة المركزية للحزب من جانب، وفي صفوف المستوطنين الذين يمثلون قاعدة شعبية يستند إليها الليكود من جانب آخر وعلي الرغم من التفسيرات العديدة التي قدمت لإقدام إرييل شارون علي هذه الخطوة التي بدت علي النقيض من مواقفه الثابتة والتاريخية فيما يخص الاستيطان، والحديث عن صورة شارون البرجماتية، فإنه لا جدال في أن هذا الموقف نبع بشكل كبير من صورته كرجل استراتيجية وذلك للأسباب التالية: أولاً: إن مستوطنات غزة لم يكن لها من الناحية العملية نفس الأهمية التي كانت لتلك التي تم تشييدها في يهودا والسامرة، سواء من حيث القيمة الدينية أو عدد المستوطنين المتواجدين فيها. ثانيًا: مع الانتهاء من وضع اللمسات الأخيرة علي الخطة تم الحصول علي موافقة البيت الأبيض عليها خلال مؤتمر صحفي مشترك بين كل من الرئيس بوش الابن ورئيس الوزراء الإسرائيلي في الخامس عشر من ابريل 2004، وبالإضافة إلي الانسحاب الإسرائيلي المعلن عنه من قطاع غزة، برزت نقاط أخري علي درجة كبيرة من الأهمية اتصلت بقضايا التسوية النهائية التي تم ترك التعامل معها قبل ذلك إلي المفاوضات المباشرة بين الطرفين وفقا لنصوص خارطة الطريق، أيد الرئيس الأمريكي وجهة النظر الإسرائيلية تجاهها حيث صرح بأنه من غير الواقعي العودة إلي حدود عام 1949 في إطار أية تسوية سلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو ما عني القبول باحتفاظ إسرائيل بجزء من أراضي الضفة الغربية في ظل أية تسوية. كما اعتبر الرئيس الأمريكي أنه يجب علي الفلسطينيين التخلي عن حق العودة، وأن يقبلوا توطينهم في الأراضي التي يتم تخصيصها لهم وليس في إسرائيل، وكان من شأن تلك التصريحات أن تعطي الضوء الأخضر للخطة المقدمة من قبل شارون والتي ركزت علي الطبيعة اليهودية لدولة إسرائيل بما يتضمنه ذلك من رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين من جانب، والإبقاء علي الكتل التي يقطنها مستوطنون يهود في الضفة الغربية، مما يعني ضم مساحات كبيرة منها في مقابل الانسحاب من كافة المستوطنات في قطاع غزة. ثالثًا: إن النص النهائي لخطة شارون تضمن سلسلة من الضمانات التي قدمها الرئيس جورج بوش الابن في خطاب وجهه إليه في الرابع عشر من إبريل 2004 تمثل أهمها فيما يلي: 1- موقف أمريكي لا جدال فيه يقضي بعدم السماح للاجئين الفلسطينيين بأية عودة إلي إسرائيل. 2- موقف واضح يؤيد عدم العودة إلي حدود عام 1967 في ضوء اعتبارين رئيسيين هما الكتل الاستيطانية الإسرائيلية من جانب، ومفهوم الحدود التي يمكن الدفاع عنها من جانب آخر. 3- تأييد أمريكي لبقاء الكتل الاستيطانية بالضفة الغربية داخل حدود الدولة الإسرائيلية. 4- اعتراف صريح بحق إسرائيل في أن تدافع عن نفسها في مواجهة الأعمال الإرهابية وضد المنظمات الإرهابية في أي مكان بما في ذلك في المناطق التي تنسحب منها. 5- التزام الولاياتالمتحدة الواضح بأسس واضحة فيما يتصل بإقامة دولة فلسطينية، من بينها عدم تنفيذ ذلك طالما لم يتم تفكيك البنية التحتية للمنظمات الإرهابية، وطالما لم يتم تغيير القيادة الفلسطينية (المقصود بذلك الزعيم ياسر عرفات)، فضلاً عن إجراء إصلاحات شاملة داخل السلطة الفلسطينية. رابعًا: مع إقدامه علي تنفيذ خطته لفك الارتباط الأحادي الجانب، عمل شارون علي تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستثثمار لها بالإيحاء بأن ينتظر المقابل من الفلسطينيين. فطبقًا له مثل تفكيك كافة مستوطنات القطاع بالإضافة إلي أربع في شمالي الضفة الغربية عملاً كافيًا لوضع السلطة الفلسطينية أمام خيار سعت لفترة طويلة إلي تجنبه، وفي خطاب نقله التليفزيون الإسرائيلي بالتزامن مع بدء عملية إخلاء المستوطنات في الخامس عشر من أغسطس 2005 ذكر رئيس الوزراء: إن العالم ينتظر رد الفلسطينيين، سواء كان في شكل اليد الممدودة للسلام، أو النار والرعب. ومن جانبنا فإننا سنقابل اليد الممدودة بغصن الزيتون، ولكننا سنواجه النار بنار أكثر ضراوة، وفي واقع الأمر فإن الرد الذي انتظره زعيم الليكود آنذاك لم يكن سوي تفكيك المنظمات الإرهابية والذي يعني بعبارة أخري حملة عارمة تقودها السلطة الفلسطينية ضد تنظيمات وطنية تحظي بمساندة شعبية قوية وأكثر تسليحًا وتنظيمًا من القوي الأمنية التابعة لها، كما كان عليه الحال بالنسبة لحركة المقاومة الإسلامية حماس أو تنظيم الجهاد الإسلامي. بما يعنيه ذلك في نهاية المطاف من إضعاف كافة القوي الفلسطينية وتأكيد مقولة عدم وجود شريك يمكن لإسرائيل التفاوض معه مما يترك لها حرية الحركة في رسم ملامح التسوية علي الأرض بمفردها ووفقًا لشروطها.