فى إطار الحديث المتواتر عن التجمعات الكبرى فى مولد السيد البدوى فى مدينة طنطا المصرية، ودهشة العديد من المواقع الإعلامية وعودة التساؤلات مرة عن الفتاوى الدينية بشأن تلك الموالد ومرة بشأن الحالة الدينية فى مصر ومرة بسبب الاندهاش من الحضور والمشاركة الجماهيرية الكبيرة. قفز إلى تفكيرى مفهوم الكرنفال فقررت استعادة مفهوم الناقد الروسى الكبير باختين عن الكرنفال والثقافة، فعدت مجددًا إلى كتابة «الكرنفال فى الثقافة الشعبية»، لأجده يحدد رؤيته بوضوح إذ يقول: «الكرنفال مهرجان يخلو من مهنة التمثيل ويخلو من الانقسام إلى مؤدين ونظارة، وفيه يكون كل فرد مشاركًا فاعلًا وله الحرية فى أن يفعل ما يحلو له بصدد الفعل الكرنفالي ... إنه يعبر عن حياة كرنفالية، ولأن الحياة الكرنفالية مستمدة من روتينها المعتاد، فإنها تكون – فى بعض أوجهها- حياة مقلوبة بطنا لظهر- أى أنها الجانب المعكوس من العالم». وفى سياق هذا الفهم يمكننا رؤية مولد السيد البدوى كتعبير حى عن ممارسة احتفالية ذات طابع فنى يتصل مباشرة بالعودة إلى أصول المسرح الاحتفالية الأولى فى إطار المناسبات الدينية، كما كان يحدث فى احتفالات مصر القديمة فى مولد أوزوريس رمز الحق والخير. إنه ذلك الشوق الإنسانى للتجمع وهى ظاهرة إنسانية مرتبطة بنزعة الإنسان للكرنفال والاحتفال والتجمع البشري، وهو شأن مرتبط بالقديسين والرموز الدينية فى الأديان السماوية الثلاثة، وما يحدث فى مولد السيدة العذراء فى دير درنكة بأسيوط صورة مما يحدث فى مولد السيد البدوي، وهو متكرر فى عدد من الموالد المصرية العديدة والشهيرة. هو علامة مصرية أصيلة تعبر عن حيوية الشعب المصري، وفى تلك الموالد الشعبية ذات الطابع الكرنفالى تذوب الفوارق الاجتماعية ويتم إلغاء الحواجز التى تفرضها التراتبية الاجتماعية. كما يتم التحرر من قيود الثروة وضغوط البقاء فى الحد الأدنى للأجور .. كما يحدث ذلك التعبير النادر بالبهجة الدنيوية وفرحة الأفعال المرتبطة بالمرح والأكل الجماعى والحلوى الشعبية ويتناثر الطعام والشراب من فيض أهل مصر، وكأنهم يملكون خزائن الأرض، وفى ذلك باب من التفرغ والفراغ الإيجابى إذ يبدو المصريون فى المولد والاحتفال وكأنهم قد فرغوا من يوم الحساب وينطلقون إنشادًا ويتمايلون بحرية حميمية على إيقاع واحد يمنة ويسرى فى إبداع مدهش للحركات الإيقاعية التى تعالج صمت الجسد وتطلق الروح الإنسانى إلى عالم من السعادة يحتويها ذلك الإيمان الشعبى العميق، وهو رزق كبير به تطمئن القلوب وتصفو النفوس. وهو تعبير حر عن حميمية الوجود الإنسانى فى هذا العالم، وهروب من شروطه الواقعية، وفى ذلك تتم استعارة وسائل فنية كالملابس الغريبة وعمائم ضخمة تبدو كأدوات للتنكر. وفى هذا أيضًا قليل من الهزل والمرح وفيض من حرية الجماعة التى تثق فى وحدة نسيجها العام المبدع. إنه حضور حى للفرد المشارك الفاعل الذى يحتفل بذاته دون الحاجة إلى من يقوم بفعل الاحتفال ليضعه فى موقف المتفرج الصامت. إنه الفاعل المؤدى المتمتع بالجماعة وبهجتها، وهو ما تسعى إليه الفنون التعبيرية جميعها فى عالم ما بعد حديث يحن حنينًا حقيقيًا إلى التجمع البشرى الحر الذى يعبر عن الارتباط القوى بالحياة وبهجتها.