مع تخطى مصر حاجز 100 مليون نسمة، لتصبح أول دولة عربية تصل إلى هذا العدد من السكان، ظهرت العديد من المطالبات بالبحث عن أهمية تفعيل ثقافة تنظيم النسل حتى لا تتفاقم المشاكل الاقتصادية لاسيما مع إعلان رئيس الوزراء د. مصطفى مدبولى إن الزيادة السكانية تمثل «التحدى الأكبر أمام الدولة، وعقبة أمام بناء دولة قوية»، موضحا أن معدلات الزيادة السكانية «تعوق مسار التنمية، وهو ما يتطلب تضافر كافة الجهود لتحقيق نجاح حقيقى فى هذا الملف، باعتباره مسئولية مجتمعية متكاملة». ضرورة لحماية التنمية وعن خطورة تلك الزيادة يوضح الدكتور عمرو حسن مقرر المجلس القومى للسكان السابق، وأستاذ مساعد النساء والتوليد والعقم بالقصر العينى أنه يولد سنويًا بمصر نحو 2.3 مليون مولود، ويبلغ معدل النمو السكانى بمصر 4 أضعاف الدول المتقدمة ولكى يشعر المواطن بثمار النمو الاقتصادى يجب أن نتحكم فى معدل النمو السكانى». وبالرغم من خطورة الزيادة السكانية تظهر دعوات ترى أن قضية التنظيم هو أمر مرفوض، الأمر الذى تصدى له علماء الدين الذين اعتبروا أن قضية تنظيم النسل فى ظل أزمة الزيادة السكانية ضرورة شرعية لابد منها. فمن جهته يوضح د. محمد مختار جمعة وزير الأوقاف أن الزيادة السكانية فى مصر تبلغ نسبتها 1.8%، أى مليونًا و800 ألف، وهذه الزيادة تمثل إجمالى العدد الفعلى للسكان فى بعض الدول على أرض الواقع، وهى تقتضى من الناحية التعليمية زيادة نحو 2000 مدرسة، و40 ألف معلم، و900 ألف وحدة سكنية، وغير ذلك من المرافق، وما يلزم لقيام كيان دولة بالكامل والزيادة السكانية فى مصر معناها إنشاء دولة كاملة بمرافقها وجميع متطلباتها، مؤكدًا أن قضية تنظيم الإنجاب أصبحت ضرورة شرعية ووطنية فى مصر، وأن هذه القضية قد تخطى الكلام فيها من حيث الحِل والحرمة إلى حالة الضرورة؛ نظرًا لخطورتها الكبيرة على مقدرات وبرامج التنمية، وأن هذا الحكم يختلف من دولة لأخرى ومن نظام إلى آخر كل حسب احتياجاته وموارده . تنظيم النسل.. والشرع ويعتبر الدكتور شوقى علام مفتى الجمهورية القضية السكانية من القضايا المهمة لكونها تمس الأمن الفكرى والأمن القومي، وتتطلب علاجًا حاسمًا لتفادى الأزمات الاقتصادية المترتبة عليها، ولارتباطها ببعض الأفكار المغلوطة التى ترى أن تقنينها وحلها يتعارض مع المشيئة الإلهيَّة». أضاف أن القول بأن الناس اعتادوا على كثرة التناسل فى الماضى يتنافى مع الوضع المعاصر تغيَّر؛ لأن الدولة أصبحت مسئولة عن توفير العديد من المهام والخدمات، ولو تُرك الأمر هكذا لأصبحت الدول فى حرج شديد؛ ولذا فتنظيم النسل الآن لا يتعارض مع روح الشريعة التى تؤيد تغيُّر الفتوى بتغير الزمان والمكان تحقيقًا لمقاصد الشريعة. وأشار مفتى الجمهورية إلى أن تنظيم النسل لا تأباه نصوص الشريعة وقواعدها قياسًا على «العزل» الذى كان معمولًا به فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجوز للزوجين أن يلتمسا وسيلة من الوسائل المشروعة لتنظيم عملية الإنجاب بصورة مؤقتة إلى أن تتهيأ لهم الظروف المناسبة لاستقبال مولود جديد يتربى فى ظروف ملائمة؛ لإخراج الذرية الطيبة التى تقر بها عين الأبوين، ويتقدم بها المجتمع، وتفخر بها أمة الإسلام. وأوضح أن هناك اتساقًا بين جميع النصوص الشرعية التى تدعو إلى رخاء الإنسان وتحقيق استقراره، ولا تتعارض مع التوازن بين عدد السكان وتحقيق التنمية، حتى لا تؤدى كثرة السكان إلى الفقر، كما استنبط الإمام الشافعى ذلك من قوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا}. وأضاف المفتى أن تنظيم النسل بسبب الخوف من حصول المشقة والحرج بكثرة الأولاد والتكاليف ليس منهيًّا عنه شرعًا؛ لأنه من باب النظر فى العواقب والأخذ بالأسباب، لافتا إلى أن تنظيم النسل جائز شرعًا، وأن الْتِماس الزوجين لوسيلة من الوسائل المشروعة لتنظيم عملية الإنجاب بصورة تناسب ظروفهما لا ينطبق على التحذير من قتل الأولاد خشية الإملاق لأنهم لم يتكونوا بعد. لافتا إلى أن دار الإفتاء المصرية استقرت فى فتواها على أن تنظيم الأسرة من الأمور المشروعة والجائزة شرعًا، وقال: هذه المنظومة التى نسير عليها متسقة مع منظومة التشريعات المصرية، كما أن الإسلام يدعو للغنى وليس للفقر ويدعو للارتقاء بالمجتمع والأسرة. وأوضح أن إضاعة المرء لمن يعول ليس فقط بعدم الإنفاق المادي، بل يكون أيضًا بالإهمال فى التربية الخُلقية والدينية والاجتماعية، فالواجب على الآباء أن يحسنوا تربية أبنائهم دينيًّا، وجسميًّا، وعلميًّا، وخُلُقيًّا، ويوفروا لهم ما هم فى حاجة إليه من عناية مادية ومعنوية. ونبَّه فضيلة المفتى على خطورة الاعتقاد بضرورة التكاثر من غير قوة، مشيرًا إلى أن ذلك داخل فى الكثرة غير المطلوبة التى هى كغثاء السيل، كما جاء فى النصوص الشرعية؛ ولذا يجب فهمها فى إطار متكامل وشامل. كما يؤكد الدكتور مجدى عاشور المستشار العلمى لمفتى الجمهورية، أن تنظيم النسل امر لا مانع منه، من اجل تحقيق التربية الصحيحة للأبناء، فالأب عليه ولاية تعليمية وتربوية وحياتية واجتماعية لأبناءه، وقد ياثم الأب فيما لو انجب مزيد من ابناء ولم يستطع تحقيق تلك الولاية، موضحا تنظيم النسل لا يعد قتل للأبناء، لأنه ليس اجهاض لجنين، وإنما هو تنظيم فى الإنجاب. أعظم تحدى د. أشرف فهمى من علماء الأوقاف يرى كذلك أن الزيادة السكانية تعد أعظم تحد تواجهه الدول النامية، وأن حديث سيدنا رسول الله(صلى الله عليه وسلم): « تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة « ليس معناه الكثرة التى يفهما البعض فهما خاطئا، وإنما يقصد النبى (صلى الله عليه وسلم) الكثرة القوية الخالية من الضعف والوهن مؤكدًا أن تنظيم النسل هو ترتيب الإنجاب بين الأولاد، وأن العلماء أجازوا تنظيم النسل استنادًا إلى الشرع الحنيف، فكان الصحابة الكرام (رضوان الله عليهم) يعزلون، وهو الوسيلة التى كانوا يعرفونها آنذاك، ويقابلها الوسائل المتاحة فى عصرنا الحاضر، فعَنْ سيدنا جَابِرٍ بن عبد الله (رضى الله عنهما) قَالَ : »كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ». ويؤكد الشيخ عطا بسيون من علماء الأوقاف أن الله تعالى خلق الكون بإبداع وحكمة، يقول تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»، فالتنظيم طبيعة كونية فى كل ما خلقه الله تعالى وأوجده، مبينًا أن تنظيم الأسرة وتنظيم فترات الحمل كان على عهد الصحابة (رضوان الله عليهم) فعن سيدنا جابر بن عبد الله (رضى الله عنهما) قال: « كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ»، موضحًا أن تنظيم الأسرة حق مشروع للحفاظ على النسل، وأن المسلمين بقوة إيمانهم لا بعددهم، وأن الآباء والأمهات قد جبلوا على محبة الذرية، مبينًا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حين قال: ” تَنَاكَحُوا، تَكْثُرُوا، فَإِنِّى أُبَاهِى بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ”، فإن التباهى لا يكون بالكثرة الهزيلة الضعيفة، وإنما التباهى يكون بالأقوياء الأصحاء الذين هم عماد الأسرة والمجتمع. التطرف.. وتحريم الحلال كما أوضح د. محمد طه رمضان أمام مسجد السيدة نفيسة أن الكثرة فى عدد السكان غير مطلوبة، وهناك بعض المتطرفين والمتشددين الذين يريدون منا عدم الحديث فى هذه الأمور بحجة أننا نقيد المباح ونحرم الحلال ,ولفت إلى أن تنظيم الأسرة لا يتنافى مع الكثرة المنصوص عليها فى الحديث الشريف: « تناكحوا تكثروا فإنى أباهى بكم الأمم يوم القيامة»، لأن الكثرة ربما تكون قد تحققت بالفعل ولا ينبغى التمسك بها، وإنما كان ذلك مطلوبًا فى فترة بعينها، فعدد المسلمين اليوم أصبح كثيرًا. أضاف أن الشريعة الإسلامية وضعت حلولًا لتنظيم الأسرة منها: التباعد بين الحمل والآخر بفترة الرضاع المنصوص عليها فى القرآن الكريم « وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ»، مؤكدا أن الشريعة الإسلامية توضح أن اليد العليا التى تمتلك المال والقدرة خير من اليد التى تمتد وتطلب لتأخذ، يقول النبى (صلى الله عليه وسلم): : « اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ، وخَيْرُ الصَّدَقَةِ عن ظَهْرِ غِنًى، ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ»، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال التنظيم الجيد للأسرة.