ربما يتذكر القارئ الكريم عندما قال مهدى عاكف مرشد الإخوان السابق جملته الشهيرة «طظ فى مصر وأبو مصر واللى فى مصر»، وقال لى أنه يفضل أن يحكم مصر مسلم من ماليزيا على أن يحكمها مصرى مسيحى، وتبارى الإخوان ومحبوهم وحلفاؤهم فى الادعاء أنها «زلة لسان» لا أكثر ولا أقل. فهل هذا صحيح؟ هل صحيح ما يدعيه الإخوان وشركاؤهم من عموم الإسلاميين أنهم «وطنيون» أكثر من غيرهم، وأنهم هم الذين يدافعون عن مصر أكثر من غيرها ويريدون الخير لأهلها. بل ويتهمون مخالفيهم بأنهم «خونة» للوطن و«عملاء» لأعدائه.. إلخ. هل تهمهم مصر فعلاً، وهل لديهم فعلاً ولاء وحب لهذا البلد؟ لنبدأ بما يقولونه فى أدبياتهم، مؤسس تنظيم الإخوان حسن البنا يقول: الإخوان لا يفهمون معنى القومية البغيض، والشعارات العنصرية مثل مصر فوق الجميع، وغيرها حيث يؤكد أننا جميعا سواء فلا يظلم أحد أو يُظلم. ويضيف البنا: الإخوان المسلمون لا يؤمنون بالقومية بهذه المعانى ولا بأشباهها، ولا يقولون: فرعونية وعربية وفينيقية وسورية، ولا شيئًا من هذه الألقاب والأسماء التى يتنابز بها الناس. ولكنهم يؤمنون بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل، بل أكمل معلم علم الإنسانية الخير: «إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى». كما ترى هذا ما يقوله البنا، الذى يحاول أن يعطى نفسه شرعية، فيلصق بكلامه حديث لا علاقة له على الإطلاق بالقضية الوطنية، فالحديث يتحدث أن أساس حكم الله جل علاه علينا بالتقوى وليس الجنسية، وهذا من القيم الكلية العظيمة للإسلام ولا علاقة له على الإطلاق بحب الوطن أو كرهه. عقيدة مزيفة فلماذا يحتقر البنا الانتماء ل«الوطن»؟ لأنه يؤمن بما يسميه «أستاذية العالم، والوطن وسيلة وليس غاية». وأستاذية العالم التى يقصدها هى السيطرة على العالم، أى حكمه وقتما تستطيع جماعته. ومصر ليست إلا محطة أولى لا أكثر ولا أقل. فلم يكن لدى البنا مشكلة فى أن يبدأ مشروعه للسيطرة وحكم العالم باسم الإسلام من اليمن. فتتساوى بالنسبة له مصر أو اليمن أو أى مكان آخر فى العالم يبدأ فيه ما يراه «دولة الإسلام». يقول بوضوح إن هذا يستغرق 6 مراحل: مرحلة الفرد ثم الأسرة ثم المُجتمع ثم الدولة ثم الخلافة الإسلاميَّة وأخيراً «أستاذية» العالم. لذلك فطبيعى ألا يحترم البنا والإخوان، فكرة الدولة بمؤسساتها، بل ويسعون لهدمها أياً كانت النتيجة، وهذا ما حدث فى سوريا وليبيا على سبيل المثال فهو يؤمن بشموليّة الدين بما هو «دين ودولة، وسيف وقرآن. والوطنية حدودها أرض الإسلام والقومية تحدها تعاليم الإسلام.. الوطنية فكرة غير حسنة، وهى وهم خاطئ وخطر على الشعوب الشرقية. ويصف البنا دعوته بأنها: لا يحدها موضع.. ولا يقف دونها حاجز جغرافى. إذن الإخوان وعموم الإسلاميين يحددون الوطنية بالعقيدة، بما يعنى تغييب عنصرى الأرض والجغرافيا اللذيْن حددتهما المفاهيم السياسية الحديثة للدولة. يقول محمود عبدالحليم أول مؤرخ للجماعة فى مذكراته: ظهرت فى ذلك الوقت جمعية مصر الفتاة التى أنشأها أحمد حسين المحامى… نفسى كانت تشمئز من الانتماء للتراب، واتخاذ مصر إلهاً تقدم له القرابين؛ إذ كان مبدؤها مصر فوق الجميع، وهو ادعاء على غير أساس، وتمييز عنصرى يستطيع كل جنس ادعاءه، وما أنزل الله به من سلطان». كما ترى يعتبر عبد الحليم الانتماء للوطن عنصرية، ويعتبر الوطن مجرد «حفنة من تراب». وكأنك عندما تحب وطنك وتنتمى إليه لا بد أن تكره باقى البشر!. فهو يؤمن بأن «الإسلام دولة وخلافة»، وهم ينتمون لهذه الدولة أيا كان مكانها، وليس للوطن الذين يعيشون فيه، وهذا بالتأكيد واحدة من الأكاذيب الكبرى، فالإسلام لم يكن أبداً دولة ولا يجب أن يكون. حتى يرسخ الإخوان فكرة أن الوطن هو الإسلام، شوهوا ومعهم عموم الإسلاميين مفهوم «الوطن» باعتبارها فى رأيهم اختراعا غربيا، متجاهلين أن مصر كانت وطناً ودولة منذ آلاف السنين. فالبنا يُرجع الاهتمام بالوطنية - كانتماء سياسى - إلى شعور الشعوب الشرقية بإساءة الغرب إليها إساءةً نالت من عِزّتها واستقلالها، وإلى تألُّمها من الاحتلال الغربى الذى يُفرَض عليها فرضًا، فهى تُحاول الخلاص منه بكل ما فى وسعها من قوة، فانطلقت ألسُن الزعماء، وسالت أنهار الصحف، وكتب الكاتبون، وخطب الخطباء، وهتف الهاتفون باسم الوطنية وجلال القومية. غاية إرهابية ويوضح الشيخ «محمد الغزالى» من كبار قادة الإخوان، أنه عندما فسد الحكم فى ظل خلافة مريضة جاهلية (يقصد الإمبراطورية الاستعمارية العثمانية)، وامتداد مخالب أوروبا إلى جسم الوطن الإسلامى تنهشه نهشًا... قامت دعوات شتى تنزع إلى إصلاح ما فسد، مثل دعوة الأفغانى، ثم خلا الجو دعوات قومية مُفرَغة من الدين. أى أن المسلمين فى رأى الغزالى أصبحوا يحبون أوطانهم بعد انهيار الإمبراطورية الاستعمارية العثمانية، لكن لو لم تسقط ما كان سيحدث ذلك. وعندما يستعيد الإسلاميون هذه الإمبراطورية (الخلافة) سوف تنتهى مسألة «الوطنية»، وكأنها مرض يجب التخلص منه. المرشد الحالى للجماعة دكتور محمد بديع قال فى رسالة له منشورة على الموقع الإلكترونى للإخوان بعد ثورة يناير المجيدة: لقد حدد الإمام (حسن البنا مؤسس الجماعة) لتلك الغاية العظمى أهدافًا مرحلية ووسائل تفصيلية، تبدأ بإصلاح الفرد ثم بناء الأسرة ثم إقامة المجتمع ثم الحكومة فالخلافة الراشدة فأستاذية العالم». أضاف المرشد الحالى دكتور بديع فى نفس الرسالة « إن الجماعة أصبحت قريبة من تحقيق غايتها العظمى التى حددها مؤسسها الإمام حسن البنا، وذلك بإقامة نظام حكم عادل رشيد بكل مؤسساته ومقوماته يتضمن حكومة ثم خلافة راشدة وأستاذية العالم. ستلاحظ هنا أن بديع يتحدث عن أهداف «مرحلية»، أى أن الوطن هو مرحلة لا أكثر ولا أقل فى المشروع الإخوانى الاستعمارى الذى لا يعترف برابطة الوطن، ولا بالحدود. يقول البنا: «رابطة العقيدة، هى عندنا أقدس من رابطة الدم ومن رابطة الأرض، فهؤلاء هم قومنا الأقربون الذين نحنّ إليهم، ونعمل فى سبيلهم، ونذود عن حماهم، ونفتديهم بالنفس والمال فى أى أرض كانوا، ومن أية سلالة انحدروا». ويضيف « تلك الوحدة التى لا تعترف بالفوارق الجنسية الدموية، ولا بالحدود الجغرافية». تقسيم الأوطان بمثل تلك الأفكار تشكلت الخلفية الأيديولوجية، والمحرك المنهجى لسياسات حكومة البشير، وهذا خلق روحاً عامة تحتقر الوطنية، فهى «نعرة جاهلية»، وأنَّ الولاء الوطنى يُخالف الولاء الديني، وهذا ليس صحيحاً لأنَّ الوطنيَّة حبٌ وانتماء وولاء حقيقى لا يجب أن يوضع فى موضع التعارض والتناقض مع العقيدة الدينية. هذه الخلفية الإخوانية هى التى سعت وسمحت بانفصال الجنوب السوداني، هذا الإنجاز الكارثى الذى قرب للأذهان مشروع الإسلاميين فى حكم بلاد لا يؤمنون بجنسيتها، أو الشعور بالمواطنة نحوها. من المهم التأكيد على أن الإخوان وعموم الإسلاميين لم يخترعوا هذا الاحتقار ل«الوطن» والسعى لتدميره، لكنه فى الحقيقة نتاج للإمبراطورية الاستعمارية المنسوبة زوراً إلى «الإسلام» والتى يسمونها الخلافة، والتى كان من الطبيعى ألا تعترف بمفهوم «الوطن» ولا الحدود حتى يجتاحوا العالم بالسلاح. فهذه القبائل التى استخدمت «الإسلام» لا تعرف أساساً مفهوم الوطن. يقول البنا: دعاة الوطنية لا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملى فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوى نفسها على حساب غيرها، فنحن لا نرضى ذلك على حساب أى قطر إسلامي، وإنما نطلب القوة لنا جميعاً، ودعاة الوطنية المجردة لا يرون فى ذلك بأساً، ومن هنا تتفكك الروابط وتضعف القوى ويضرب العدو بعضهم ببعض. بعض الإخوان الذين يريدون تبييض وجه تنظيمهم من هذا العار ونفى تهمة أنهم ضد «الوطن»، ومنهم الدكتور جمال نصار الذى تحدث مطولاً عن حب البنا لمصر.. لكنه فى النهاية يعترف قائلاً: أما مصر، فإنها قطعة من أرض الإسلام، وزعيمة أممه.. ونحن نرجو أن تقوم فى مصر دولة مسلمة، تحتضن الإسلام، وتجمع كلمة العرب، وتعمل لخيرهم، وتحمى المسلمين فى أكناف الأرض ... فالمصرية لها فى دعوتنا مكانتها ومنزلتها وحقها فى الكفاح والنضال.. ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام ولخير العالم كله. خيانة مصر كما ترى فمصر مجرد محطة، ويمكن التضحية بمصالحها الوطنية إذا تعارضت مع مشروعهم الاستعمارى. كما يفعلون الآن، فقد نقلوا ولاءهم إلى أردوغان فى تركيا لأنه هو الذى سيحقق حلمهم فى إعادة بناء «الخلافة الإسلامية»، أو للدقة الإمبراطورية الاستعمارية العثمانية. لذلك يدافعون عنه ويعملون لصالحه ضد الدولة المصرية. فعندما أرسل أردوغان إلى ليبيا إرهابيين أيدوه، رغم خطورة ذلك على الأمن القومى المصرى. ويؤيدون احتلال أردوغان لأرض سورية رغم أن أغلبها مسلمون. فكل هذا ليس مهماً، المهم هو تحقيق حلم «الخلافة». السلفيون كذلك لا يختلفون عن الإخوان المسلمين، يقول عبد العزيز بن باز: (الواجب الولاء لله ولرسوله بمعنى أن يوالى العبد فى الله ويعادى فى الله، وقد يكون وطنه ليس بإسلامى فكيف يوالى وطنه؟). ويقول ابن عثيمين: نحن إذا قاتلنا من أجل الوطن، لم يكن هناك فارق بيننا وبين الكافر لأنه أيضا يقاتل من أجل وطنه، مضيفا: والذى يقتل من أجل الدفاع عن الوطن فقط ليس بشهيد، الواجب أن نقاتل من أجل الإسلام فى بلادنا. عندما يقول واحد من كبار الإسلاميين ابن عثيمين «فكيف يوالى وطنه؟!» فهو يعنى أنه لا مشكلة فى أن تخون وطنك، بل بالعكس طبقاً لرأيه، بل عليك خيانته. بطريقة أكثر وضوحاً الوطن بالنسبة للإخوان وعموم الإسلاميين «وثن» و«أرضه «حفنة من تراب عفن» كما يقول سيد قطب فيلسوف الإخوان، فيزعم أن الوطن «ليس أكثر من قطعة طين»، كما يزدرى جنسية البلد التى يحملها الإنسان فيصفها بأنها «نتن عصبية النسب»، ويفرق بين انتماء المسلم لدينه وانتمائه لوطنه، زاعماً استحالة الجمع بينهما فى قلب المسلم. وتبعاً لعقيدة ازدراء الوطن، يحض أتباعه على عدم القتال دفاعًا عن الأوطان فيقول: «إن المسلم لا يقاتل لمجد شخص، ولا لمجد بيت، ولا لمجد دولة، ولا لمجد أمة، ولا لمجد جنس، وإنما يقاتل فى سبيل الله»!!. فى كتابه الآخر (معالم فى الطريق) يقول: «إن الوطن ليس أرض مصر، وإنما الوطن هو الدين الإسلامى، وإن الأرض المصرية ليست سوى الطين والسكن»!!. هذا المفهوم لا يخص الإخوان وحدهم، يقول شكرى مصطفى زعيم جماعة التكفير والهجرة التى اغتالت وزير الأوقاف عام 1977 فى التحقيقات: «إذا اقتضى الأمر دخول اليهود أو غيرهم، فإن الحركة حينئذ ينبغى ألا تشارك الجيش المصرى فى القتال، بل عليها الهرب إلى أى مكان آمن.. إذ خطتنا هى الفرار من العدو الوافد تماماً كالفرار من العدو المحلى وليس مواجهته»، ودعا أتباعه إلى أن يُفسدوا أسلحتهم إذا أُجبروا على القتال!!. نائب مرشد الجماعة الحالى خيرت الشاطر فى عام 2012 أكد أن الجماعة لا تلتزم بالحدود الجغرافية ولكنها جماعة منتشرة وهدفها الخلافة. وأضاف: أن المسلمين خارج دائرة السلطة منذ 1200 سنة. مشيراً الى أن البنا عرفنا كيف فقد المسلمون السلطة لكى نستعيدها. ستلاحظ هنا مشروعية الخيانة الوطنية بناء على أنهم يرون أنه لا «إسلام» بدون خلافة، أى لن يقوم الدين بدون خلافة، فالدين بالنسبة لهم هو الامبراطورية الاستعمارية التى احتلت الكثير من بلدان العالم، ومن ثم فالولاء لها. رغم أنها لا علاقة لها بالدين، فالله جل علاه لم يأمرنا أبداً بالاحتلال والسبى والنهب. ولم يأمرنا بإجبار غيرنا بالقوة على الإسلام أو الجزية. أما صفوت حجازي، فقد دعا فى اعتصام رابعة إلى إدخال مصر فى دائرة إمارات إسلامية عاصمتها القدس وليست القاهرة. لهذا خاطب محمد بديع، رئيس حماس إسماعيل هنية قائلاً: «كنت أود أن أراك رئيساً لوزراء مصر»، بل ووعد الفلسطينيين فى حركة حماس بإعطائهم أولوية التوطين فى أراضى سيناء، ومنح خمسين ألفاً منهم الجنسية المصرية! وما زلنا نذكر ما أعلنه عضو مكتب الإرشاد محمد عبد المقصود، أثناء احتفالات أكتوبر 2012 من نهاية «زمن مصر للمصريين». هذا يؤكد أنه ليست لديهم مشكلة فى أن يتآمروا على بلدهم، فقد طلب يوسف القرضاوى القوى الأجنبية إلى التدخل لإعادة مرسى والإخوان للحكم، وردد خطباؤهم فى اعتصام رابعة: أبشروا بنزول 7000 من جنود المارينز الأمريكان فى السويس، وسط صيحات «الله أكبر» من قبل المتجمعين فى ذلك الاعتصام.. فأى خيانة وتآمر على الوطن أعظم من ذلك؟ وقد سبق وأعلنوا عن استعدادهم للتنازل عن حلايب وشلاتين فى جنوب مصر لحليفهم الإخوانى عمر البشير فى السودان، واستعدادهم منح حماس حوالى ثلاثة كيلو مترات من شمال سيناء، بدعوى «هم منا ونحن منهم».. على حد قول مرشدهم مهدى عاكف. الخلاصة أن الإخوانى والإسلامى لا بد أن يكون خائناً لوطنه لأن ولاءه ليس له، ولكن ل«دولة الإسلام والخلافة» المزعومة، والمؤكد أن الإسلام ليس دولة ولا خلافة ولا يجب أن يكون. وهناك مفكرون مسلمون عظام أثبتوا بالأدلة القرآنية ومن أحاديث وسيرة سيدنا النبى أن الإسلام لم يكن دولة ولا خلافة، وإنما تم استغلاله للحكم والسلطة والإمبراطورية، ومن هؤلاء العظام الشيخ الأزهرى على عبد الرازق فى كتابه «الإسلام وأصول الحكم». وربما نتناوله لاحقاً، مع غيره من المفكرين الكبار، حتى يتأكد المسلم أن هذا الدين أعظم من أن يتم الزج به فى «مستنقع» الإخوان والإسلاميين ليحولوه إلى أداة حكم واستبداد وإكراه ودم ودمار. (فصل من كتاب: «تفكيك مصانع إنتاج الإخوان». متضمن كل المصادر التى اعتمد عليها البحث، يصدر قريباً)