هذه هي المرة الثالثة التي يسبق فيها شيخ الأزهر د. أحمد الطيب الجميع في وضع أطر عامة تجمع الفرقاء والقوي السياسية المصرية المتناحرة. وهي المرة الثالثة أيضاً التي يتعاون فيها الإمام الأكبر مع مجموعة كبيرة مع المثقفين المصريين تحت سقف الأزهر الشريف ومرجعيته الوسطية ليصبح الأزهر جاذباً للجميع وليس مجذوباً أو متحيزاً إلي أي قوة سياسية أو دينية بعينها. وهي المرة الثالثة التي يبرهن فيها د. أحمد الطيب علي أن الأزهر ليس ملكاً لأحد بعينه.. بل هو للمسلمين جميعاً.. وهو ملك للمصريين.. ومأوي وملاذ آمن لهم كما قالت د. مني مكرم عبيد للدكتور أحمد الطيب وهي تعترض علي قول أحد الجالسين أن الأزهر ملك للمسلمين فقالت: إنه ملك لجميع المصريين مسلمين ومسيحيين.. لأنه بيت التسامح وقبول الآخر وإنصافه. وأنا أضيف إلي ذلك أن الأزهر ملك لمسلمي العالم كله عامة وللمصريين جميعاً خاصة. وبيان الأزهر للحريات صيغ بعبارات دقيقة ورشيقة خطها قلم الأديب د. صلاح فضل وراجعه كثيرون من أولي الرأي والعلم والفقه. وكما حظيت وثيقة الأزهر الأولي بتوافق مجتمعي مصري كبير.. فإني آمل أن تحظي هذه الوثيقة بتوافق أكبر. ولو كانت الدولة المصرية أخذت بوثيقة الأزهر الأولي لتجنبت كل المشاكل التي نتجت عن أفكار د. يحيي الجمل والمواد فوق الدستورية التي طرحها د. علي السلمي.. ولكن مشكلة الأزهر المزمنة هي عدم قدرته علي تسويق أفكاره وطرحها علي الشباب مباشرة والاحتكاك بهم. وقد عرضت مراراً علي فضيلة الإمام الأكبر أن ينزل إلي الجامعات ويعطي محاضرات جامعة فيها كما كان يفعل الراحل الكريم د. عبد الحليم محمود.. ولكن لم يتم تفعيل هذا الأمر حتي الآن.. ولا أدري السر في ذلك. ولعل أهم ما في البيان من وجهة نظري هو ربط الدين بالحياة ربطاً صحيحاً.. أو ربط الواجب الشرعي بالواقع العملي ربطاً دقيقاً لا يخل بالواجب الشرعي ولا يهمل الواقع العملي.. وهذا ما ينقص بعض الإسلاميين في معظم العالم العربي.. إذ يهتمون اهتماماً بالغاً بالواجب الشرعي.. غافلين عن واقعهم الذي يعيشون فيه والذي لن يستطيعوا تجاوزه بأي حال من الأحوال.. والواقع العملي ليس هو الواقع المصري فحسب.. ولكنه الواقع العربي والإقليمي والعالمي. وتلمح روح هذا الجمع في كلمات كثيرة من البيان مثل قولي عن الحريات العامة: «تأصيلاً لأسسها وتأكيداً لثوابتها وتحديداً لشروطها.. علي أساس ثابت من رعاية مقاصد الشريعة الغراء وإدراك روح التشريع الدستوري الحديث ومقتضيات التقدم المعرفي الإنساني». وهذه الوثيقة تصلح لأن تكون نموذجاً تلتزم به كل الأحزاب والقوي السياسية ذات المرجعية الإسلامية أو الليبرالية أو الاشتراكية أو اليسارية إذا وصلت للحكم.. فلا تصادر هذه الحريات الأساسية التي هي عماد المجتمع. أما أهم الحريات التي نصت عليها الوثيقة فهي أربع حريات: حرية العقيدة.. حرية الرأي والتعبير.. حرية البحث العلمي.. حرية الإبداع الأدبي والفني. وقد رتبت الوثيقة علي مبدأ حرية العقيدة عدة أمور أهمها: «التسليم بمشروعية التعدد ورعاية حق الاختلاف ووجوب مراعاة كل مواطن مشاعر الآخرين والمساواة بينهم علي أساس متين من المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص في جميع الحقوق والواجبات». أما في حرية الرأي والتعبير فقد نصت الوثيقة علي أهمية النص عليها في الدستور القادم .. كما اهتمت بذكر ما استقر عليه رأي المحكمة الدستورية العليا المصرية علي توسيع مفهوم حرية التعبير ليشمل النقد البناء ولو كان حاد العبارة.. لأن التسامح فيه أفضل من تقييده بعدم التجاوز. لكن الوثيقة نبهت في الوقت ذاته إلي ضرورة احترام عقائد الأديان الإلهية الثلاثة وشعائرها.. لما في ذلك من خطورة علي النسيج الوطني والأمن القومي. وذكرت الوثيقة أنه: «ليس من حق أحد أن يثير الفتن الطائفية أو النعرات المذهبية باسم حرية التعبير وإن كان حق الاجتهاد بالرأي العلمي المقترن بالدليل وفي أوساط المتخصصة والبعيد عن الإثارة مكفولاً كما سبق في حرية البحث العلمي». أما بالنسبة لحرية الإبداع الأدبي والفني والذي يكون عادة مثاراً للجدل والنقاش والأخذ والرد بالإضافة إلي أنه المجال الأبرز الذي يتخوف فيه أهل الفن والغناء والسينما من الإسلاميين إذا وصلوا للحكم. فقد نصت الوثيقة علي أن: «القاعدة الأساسية التي تحكم حدود حرية الإبداع هي قابلية المجتمع من ناحية وقدرته علي استيعاب عناصر التراث والتجديد في الإبداع الأدبي والفني من ناحية أخري.. مع عدم التعرض لها ما لم تمس المشاعر الدينية أو القيم الأخلاقية المستقرة». وقالت الوثيقة في هذه النقطة: «إن الآداب والفنون مرآة لضمائر المجتمعات وتعبير صادق عن ثوابتها ومتغيراتها.. وهي التي تعرض صورة ناضرة لطموحاتها في مستقبل أفضل». وبهذا يكون الأزهر وشيخه بالتعاون مع مجموعة من المثقفين قد أنجزوا إنجازات فكرية متميزة تصلح لأن تكون عنواناً للتوافق المجتمعي المصري.. بدلاً من التشرذم والتفرق والاستقطاب الحاد.