الشيخ راشد الغنوشي من أكثر العقول الإسلامية تطوراً وهو يمثل رجل الدولة بحق وليس رجل الدعوة فقط.. فهو لا يتحدث بعقلية قائد جماعة أو داعية في مسجد ولكنه يتحدث بعقلية رجل دولة محنك.. ولذلك استطاعت تونس أن تتجاوز عقبات كثيرة كان يمكن أن تسقط فيها عقب ثورتها.. وذلك بفضل الله ثم لحنكته السياسية وتسامحه المميز واعترافه بحق الآخر في الحكم والحياة والمشاركة السياسية. وقد أعجبني كثيراً ما قاله في لقائه مع الإعلامي الرصين المتميز حافظ الميرازي حيث قال:- نحن مع مدنية الدولة ولسنا مع علمانيتها. مصر أو تونس لا تحتاجان للعلمانية. الفكرة الإسلامية توفر أكثر مما توفره العلمانية لمجتمعاتها من الخير شريطة أن نفهم الإسلام فهماً صحيحاً. هناك فرق بين العلمانية الفرنسية والعلمانية الأنجلوسكسونية. الربيع العربي هو مازال ربيعاً تونسياً فقط.. ولكن لا خوف علي مصر. علينا احترام عقائد الآخرين حتي إن خالفونا العقيدة حتي يحترموا عقائدنا.. ألم يقل الله سبحانه وتعالي «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم». الأحزاب تحاسب علي برامجها في الأساس وليس علي عقائدها. لقد استطاع الغنوشي بوسطيته واعتداله وتسامحه واعترافه بحقوق الآخر أن يطفئ نيران الغل والحقد والحسد والصراع الدموي علي السلطة.. فدخلت تونس إلي الربيع سريعاً وبقيت فيه حتي الآن وأصبحت تسير بخطي واسعة نحو التقدم والازدهار. ولو ذاق البعض مثلما ذاقه الغنوشي من نظام بورقيبة وبن علي لامتلأ قلبه حقداً وغلاً علي الجميع.. ولكنه أدرك أن الغل لا يبني الأوطان ولكن يهدمها.. وأن الحقد لا يطفئ النيران ولكنه يشعلها. لقد أدرك الغنوشي أن بناء المجتمعات يحتاج إلي نفوس هادئة رزينة حكيمة غير تلك النفوس الثائرة التي تحسن الهدم.. فليس كل الثوار يحسن بناء الأمم ونهضتها.. فالثائر تعود علي الهدم وقد لا يحسن سواه.. أما رجل الدولة فهو يحسن البناء. والثائر قد يحسن الصراع مع الآخرين.. ورجل الدولة يحسن التوافق مع القوي المختلفة.. فالدولة لا تقوم إلا علي التوافق. وكلما سمعت الشيخ راشد الغنوشي أري تواضع النفس وسكينتها وحب الناس جميعاً سواء انضوي تحت لوائه أو لم ينضو. فالغنوشي يعتبر كل مسلم أو مسيحي أو يهودي تونسي من رعيته.. يريد أن يحنو عليهم ويرحمهم.. لقد نشر الغنوشي ثقافة الحب في المجتمع التونسي.. في حين أن بعض القيادات من كل الاتجهات في المجتمع المصري تشيع الآن ثقافة الكراهية فيه علي نطاق واسع. لقد استطاع الغنوشي أن يجمع ولا يفرق.. يبشر ولا ينفر.. ويقرب ولا يباعد. لقد استطاع الغنوشي أن يسلك مسلك مانديلا حينما عفا عن السود الذين آذوه ولم يقف طويلاً عند هذا الأذي.. وجمع أطياف المجتمع الجنوب إفريقي كله تحت حكمه.. ثم أكمل خيره وبره بتركه للحكم بعد فترة رئاسية واحدة ضارباً المثل للجميع في الزهد بعد أن ضربه قبل ذلك في التسامح. فتحية للغنوشي وتحية لمانديلا.. وتحية لكل من يبني ولا يهدم.. ويحب ولا يبغض.. وينشر الخير ويزرعه ويترك الشر ويهجره.