معظم الأقوياء من الإخوة المعتقلين كانوا رحماء.. هذه هى الملحوظة العجيبة التى رأيتها فى المعتقل.. فكلما رأيت أخا قوى البنيان ضخم الجسد مفتول العضلات وجدته صاحب قلب مثل الطير فى رقته وأدبه ورفقه. وكلما رأيت أخا من أبطال الكاراتيه أو الكونغ فو فى المعتقل.. وجدته آية فى الرفق والأدب الرفيع.. فقلت فى نفسي: «الحمد لله الذى جعل الأقوياء من ذوى الرحمة والرفق.. وإلا ضاع الضعفاء من أمثالنا». وقلت: «هذا تدبير الله سبحانه وتعالى لخلقه الضعفاء أن جعل القوى رفيقاً رحيماً». وفى المقابل كان معنا أخ قصير القامة جداً ولكنه كان غضوباً إلى أبعد حد.. وعنيفاً ومتكبراً وشامخا بأنفه ولا يعجبه أحد.. كثير الشجار مع كل من حوله.. يتشاجر مع إخوانه فى الزنزانة ومع من يلعب معهم الكرة. ينظر إلى الآخرين بازدراء ويرى نفسه دائماً أفضل من غيره.. حتى لو كانوا أكثر منه علماً فى الدين والدنيا. يستعلى على الجندى والشاويش.. ولو استطاع أن يستعلى على الضابط لاستعلى عليه. وأذكر أننا شجعناه على استكمال دراسته وكان حاصلاً على دبلوم متوسط فقط.. فذاكر الثانوية وحصل عليها.. وذاكر الحقوق وحصل عليها بمساعدة كل من حوله.. ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا فيها. فقد كان نشيطاً دءوباً ساعياً لتحسين وضعه العلمي.. وكل ذلك حسن وجيد ولا غبار عليه.. لكنه بعد أن حصل على الماجستير أصبح يشتم كل شاويش فى السجن لا يناديه باسم الدكتور فلان.. ويصيح فيه بأنه لم يتعلم الذوق ولم يعرف أقدار الرجال.. وكأنه فرض على الشاويش والجنود والإخوة أن يضيفوا لقب الدكتور قبل الحديث معه.. رغم أنه لم يحصل على الدكتوراة بعد. والغريب أنه يفعل ذلك وهو معتقل فى السجن.. وكان منذ سنوات يعذب ويشتم من شاويشه فى سجون أخرى. وفى إحدى المرات كان يلعب الكرة مع بعض الإخوة بينهم شيوخ أكبر وأفضل منه فتشاجر مع أحدهم وإذا به يضربه.. رغم أنه الأقل منه قوة وبأساً.. ولكن هذا الشيخ يأبى أن يمد يده عليه.. ثم يقوم الإخوة بالحجز بينهما .. ومعاقبة ذلك الأخ القصير. فقلت حينها لنفسي: «سبحان الله.. إن لله فى خلقه حكماً وأسراراً لا يعلمها إلا هو.. لقد كان هذا الأخ يحمل دبلوماً متوسطاً فكان كبره وشموخه وتعاليه بسيطاً.. فلما ارتقى تعليمه ازداد كبراً وتعالياً على كل من حوله.. ولو خلقه الله بطلا من أبطال الكاراتيه مثل فلان.. لكان يمكن أن يضرب كل من حوله». لقد قارنت بينه وبين أخ آخر كان يعيش معنا فى السجن وكان من بين خلصائى وتلاميذى وهو الشيخ حسن عاطف.. وكان بطلاً من أبطال الكاراتيه.. وكان حاملاً للقرآن.. وكان يراجعه كل يوم.. وكان فى منتهى الرأفة والوداعة والأدب رغم قوته وبأسه.. وكان يحب تربية القطط جدا.. وكانت زنزانته مأوى لكل القطط فى العنبر يطعمها من أفضل ما يأكل.. بل قد يؤثرهم على نفسه ويهتم بأى قطة منها تلد.. وتأوى إليه القطط لتنام على بطانيته فى الشتاء وتجلس على حجره فى الصيف وهو يقرأ القرآن. فلما جاء موعد الإفراج عنه قلت له: هل تريد شيئاً قبل أن تخرج؟ فقال لي: وصيتى لك أن تهتم «بعنتر ورزة».. وهما قطتان سود كان يربيهما فى غرفته.. ويعلم أن هناك من يريد طردهما من العنبر. فقلت له: «لا تخف يا عم الشيخ حسن أحضرهما إلى زنزانتى وهما فى الحفظ والصون».. وفعلا عاش عنتر وشقيقته وزوجته فى الوقت نفسه رزة حياة كريمة فى غرفتي.. وكان كل منهما يعرف اسمه ويعرف من الآداب المعيشية الكثير والكثير مما تعلماه من الشيخ حسن فى غرفته. تحية إلى كل متواضع رحيم رفيق.. ونعوذ بالله من الكبر والاستعلاء والشموخ على الآخرين.. وأعظم دعاء أحبه وأدعو به على الدوام وأستشعر معانيه العميقة والعظيمة هو الدعاء المأثور عن السلف الصالح: «اللهم إنى أعوذ بك أن أكون فى نفسى عظيما.. وعندك وضيعا حقيرا».