كتب: المستشار د. محمد الدمرداش استكمالا لحديثنا عن ظاهرة الإلحاد والنظريات الوجودية التي تصادم الأديان السماوية وعادت تطل برأسها مؤخراً، نورد قصة تروي عن فخر الدين الرازي أنه كان يمشي في طريق وخلفه تلاميذ له أكثر من مائة، فمروا علي عجوز فاستغربته، وقالت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو عبد الله الرازي العالم الجليل، يحفظ ألف دليل علي وجود الله تعالي. فصاحت العجوز: أفي الله شك وصدق الله إذ يقول: «أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» أي: أيشك في الله حتي يطلب إقامة الدليل علي وجوده سبحانه؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول؟ فكيف يستدل علي الأظهر بالأخفي؟ فالله عز وجل ليس في حاجة إلي الاستدلال علي وجوده؛ لأنه سبحانه جبل فطرة الإنسان علي الإقرار بوجوده، فلو ترك الإنسان بغير تدخل من طرف معين، نشأ موحّداً لله، لكن التأثيرات الخارجية قد تغير من مفاهيمه، وهذا لا يعني أنه ينشأ حافظاً لأركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، ، ولكنّه سوف ينشأ مؤمنا بوجود خالقٍ خلقه؛ لذلك فلا حاجة لسرد أدلة مادية لإثبات وجود الموجِد، إلا لتفنيد ما يسوقه الملاحدة الجدد من ترهات واهية لنفي هذا الوجود. والأدلة علي وجوده وعظمته أكثر من تحصي، وهي كافية لمن كان يريد الحقيقة لا المكابرة، أنا المتعنتون، والمتكبرون، وأصحاب الأهواء، فلا رجي منهم. فمن الأدلة الدالة علي وجوده تعالي: أولاً: وجود هذا الوجود نفسه هو أعظم شاهدٍ علي موجِد الوجود، إذ يستحيل في العقل والمنطق، وجود شيءٍ بغير موجِد، وباختصار فالصنعة تدل علي الصانع. ثانيا: نهاية هذا الوجود ذاته، فبما أن له نهاية، فلابد أن تكون له بداية؛ لأن لكل بداية نهاية، فلا توجد نهاية بلا بداية، ولا بداية بلا نهاية، وبداية الوجود ونهايته تأخذ صوراً عِدّة: الصورة الأولي: أنّنا لو تركنا الأشياء دون تدخل منا، فإنّها تبلي وتنتهي شيئاً فشيئاً، فلو قمنا بتشييد بيتٍ وتركناه فترة من الزمن، فإنه سوف يبلي، ولو ترك سنين عددا ، فإنه سوف ينهار من تلقاء نفسه. الصورة الثانية: أن الحقيقة والواقع هي أن الأحياء آخذة في الانقراض، فقد أُكتُشِف أن هناك العديد من أنواع الكائنات قد انقرضت ولم يعد لها وجود، وأن غيرها مهدّد بالانقراض إذاً فكل شيءٍ في الطبيعة معرّض للفناء. الصورة الثالثة: حقيقة الحياة والموت ذاتها، وهو نظام يعضد الأدلة القائلة بأن الكون له نهاية، فإن كل وجودٍ له حياة وموت، فإذا كنا نجد أن كل الأشياء وشتي الأحياء لها وجود وفناء، فإذا كان لهذا الوجود بداية، فباليقين لزاما علينا أن نسأل: من الذي بدأه؟ ويستحيل أن نقول بأن الوجود أوجد نفسه، أو أنه وجد عن طريق الصدفة، هذا لا يقبل عقلاً كما عرضنا في مقال الأسبوع الماضي. ثالثًا: هذا النظام الكوني العجيب، والتوازن الطبيعي المذهل، ينفي وبشكل قاطع، أن يكون هو من نظم ذاته أو جعله متوازنا بطبعه. فمن أعجب ما يميز الوجود، هو النظام الكوني البديع، فها أنت تري أن الكواكب تسير في طريق مرسومة لها، وهي في حركتها لا تتصادم، لأن كل كوكبٍ منها قد جعل له مسلكاً لا يحيد عنه، ثم نري الشمس والقمر، وحركتهما البديعة، والعجيب أنهما لم يغيرا مسارهما منذ وجدا، فإذا هبطت إلي الأرض، تجد الجبال ما بين أسود وأزرق وأبيض، وتجد الهضاب الحُمر، والسهول، والغابات، وما في ذلك كلّه من ألوان مختلفة بديعة يعجز عن رسمها أحذق الرسامين؛ كل ذلك في منظومة بديعة تعمل علي الحفاظ علي توازن الطبيعة بعيدا عن تدخلات الإنسان المفسدة للطبيعة، والحيلولة دون استفحال عنصر من عناصر الطبيعة علي الأخري، فالصدفة لا يمكن أن تحدث مثل هذا النظام والتوازن، ولنا أن نسأل: من أوجد هذا النظام والتوازن الطبيعي؟ رابعا: أن كلّ شيءٍ في هذا الكون، قد سخّر في خدمة الإنسان، فالكواكب مثلا من وظائفها الكثيرة أنها: علامات يهتدي بها، وزينة للسماء. فأمّا كونها علامات يهتدي بها، فهي علامات في ثلاثة مواضع: علامات لمعرفة الاتجاهات الأربعة، وعلامات لمعرفة المواسم والفصول، وعلامات لمعرفة الأيام والشهور. فأمّا كونها علامات لمعرفة الاتجاهات الأربعة، فإن النجم القطبي، يشير دائماً إلي جهة الشمال، ويمكن تمييز النجم القطبي من بين سائر النجوم بكونه أدني النجوم إلي الأرض. وإذا عرفت اتجاه الشمال سهل عليك معرفة باقي الاتجاهات الأخري. وأمّا كونها علامات لمعرفة المواسم والفصول، فذلك أنّه لكل فترة زمنية علي وجه الأرض، يبرز نجمٌ في السماء، وهذا النجم يحمل شكلاً فريداً، وعند خروج هذا النجم يتميز مناخ الأرض بحالة خاصّة ما دام ساطعاً في السماء. فإذا أفل، زالت هذه الحالة المناخية، وبرز نجم آخر وحالة مناخية أخري. وأمّا كونها علامات لمعرفة الأيام والشهور، فهذا مختص بكوكب القمر، ذلك أنّ القمر يدور حول الأرض، وله في كل يومٍ منزل معين وشكل معين، ومن خلال شكله ومنزله من السماء يعرف اليوم الذي يعيشه النّاس. والبديهي أنّ الصدفة لا يمكن أن تحدّد وظائف هذه الكواكب ولا يمكن أن تكون هذه الكواكب تبرّعت بخدمة الإنسان مجّاناً؛ لأنّها في الأصل جمادات لا حياة فيها ولا إرادة ، بقي أن نقول بأنّ هناك من أسّس هذه الكواكب وأوجدها لخدمة الإنسان، فمن هو الذي قام بذلك؟ وما الذي ميز الإنسان عن غيره من المخلوقات حتّي يسخّر الكواكب في خدمته؟! خامسا: أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد القادر علي استغلال موارد الأرض وثرواتها؛ فالإنسان يستغل الحيوانات بشتي الصور لحفظ حياته، وهو الكائن الوحيد الذي لديه القدرة علي الزراعة وإنتاج المحاصيل التي لولا تدخّل الإنسان لكانت كمية إنتاجها محدودة وقليلة ومبعثرة، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي لديه القدرة علي استخراج المعادن من باطن الأرض والاستفادة منها، والإنسان هو الكائن الوحيد القادر علي صناعة الأشياء واستهلاكها، الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لديه القدرة علي تشييد العمران وبناء المدن، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع التفكير وتذليل صعوبات الحياة. ولنا أن نسأل: كيف يكون الإنسان هو الكائن الحي الوحيد القادر علي الاستفادة من موارد الأرض وثرواتها؟ ولماذا الإنسان وحده؟ لماذا لم تكن هناك حيوانات أخري لديها القدرة علي التفكير واستغلال الأرض مثل الإنسان؟ إذا كان وجود الإنسان والكون صدفة، فلماذا لم تصنع الصدف كائنات أخري لديها نفس القدرة التي لدي الإنسان، وتشارك الإنسان في هذه الثروات الأرضية الهائلة؟! سادسا: أنّ العبودية فطرة في كلّ نفسٍ بشرية، وهذه العبودية الكامنة في النفس لا تحتاج سوي من يوجّهها، فهناك من يوجّهها الوجهة الصحيحة ميمما وجهه شطر رب العزة، وهناك من يوجّهها الوجهة الخاطئة، فيصرفها إلي جنس من الحيوانات، أو إلي جنس من الأشجار، أو إلي جنس من الجمادات التي لا حياة فيها، أو يصرفها إلي جنسٍ من البشر، بل حتّي الملاحدة المنكرين لوجود الله عز وجل يصرفون العبادة للطبيعة وهم لا يشعرون؛ لذلك تجدهم يقدّسون الطبيعة تقديس الموحّدين لربهم وتقديس أهل الآلهة لآلهتهم. إذا علمنا أن العبودية إحساسٌ كامنٌ في النفس البشرية، فيجب أن نسأل أنفسنا: من الذي جعل هذا الإحساس يطغي علي البشر إلي الحدّ الذي نجد فيه الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدون آلهة يعبدها؟! لماذا لا يكون الإنسان حرّاً بلا آلهة ولا عبودية لغيره طبيعة أو جمادا أو بشرا؟! وللحديث بقية ان كان في العمر بقية وكيل مجلس الدولة رئيس المحكمة الإدارية لجامعة الدول العربية