آدى الربيع عاد من تانى والبدر هلت أنواره.. هكذا غنى الموسيقار الراحل فريد الأطرش قبل 65 عاما وتحديدا 1949 م،حيث غنى تلك الأغنية للمرة الأولى من كلمات الشاعر الكبير الراحل مأمون الشناوى، لتصبح بعدها وعبر سنوات طويلة أيقونة معبرة عن عيد الربيع أو شم النسيم كما يحلو للمصريين أن يسمونه. وإن كان شم النسيم مناسبة مرتبطة بالحضارة القبطية والديانة المسيحية وذات جذور مصرية قديمة، فإنه أصبح مع مرور الزمن مناسبة للمصريين جميعًا، حيث يخرجون للمتنزهات والحدائق والأماكن الفسيحة الخضراء، كما أن النيل يعد وجهة رئيسية فى ذلك اليوم وكذلك حديقة الحيوان، وبغض النظر عن تقييمنا لسلوكيات المصريين فى هذا اليوم، فإنهم يعتبرونه فرصة للخروج من دائرة ضغوط الحياة إلى الاستمتاع بمشاهد الأرض الخضراء والزهور. البداية كانت مع د.أشرف أبواليزيد مدير عام متحف النسيج القومي، والذى قال إنه يستطيع لأى دارس لعادات المصريين القدماء أن يتبين أن مظاهر الاحتفال بما يسمى شم النسيم اليوم قد عرفت مثيلاتها فى مصر القديمة بكل تأكيد لكنى أضم صوتى لمن يقولون بأنه ليس لدينا دليل علمى يؤكد أن هذا اليوم بشحمه ولحمه قد عرف فى مصر القديمة وكل هذه التقريبات بين الاسم الحالى واشتقاقه من كلمات قبطية أو مصرية قديمة هو محض اجتهاد، إذ أن شمّ «النسيم» كلمة عربية لها مدلول مختلف عن شمو المصرية القديمة التى كانت اسمًا لفصل الحصاد. الملاحظ أن الاحتفال بأعياد الربيع ليس مقصورًا على مصر وحدها وإنما يمتد فى بلاد الشرق الأدنى والأقصى ويأخذ أسماء عديدة أشهرها شم النسيم فى مصر وعيد النيروز فى منطقة آسيا الوسطى، وأغلب الظن – فى رأيى – أن العيد كان مرتبطًا بالمعبود رع إله الشمس ومانح الحياة ومجرى النيل فى عقيدة المصريين القدماء حيث يخرج المصريون فى الصباح الباكر نحو النيل «وما زالوا يفعلون فى صعيد مصر» يشهدون شروق الشمس على ضفافه ويقيمون احتفالاتهم بالقرب منه يأكلون الأسماك والبيض التى تعد رموزًا لرع وتجدد الحياة. وغالبًا فإن الاحتفال بهذا العيد كان أصلًا فى شهر أمشير «يقابل مارس فى جزء منه حيث الاعتدال الربيعى وتساوى الليل مع النهار» حيث تنزل « الشمس الكبيرة » كما يسميها الفلاحون العجائز فى قرى مصر حتى اليوم حيث ينتهى الشتاء وتبدأ الأرض فى الاخضرار وتدب فيها الحياة غير أنه بدخول المصريين فى المسيحية ووجود الصوم الكبير الذى يسبق عيد القيامة ب 55 يومًا - تبدأ فى أمشير أيضًا - يمنع فيها تناول الأسماك وكل ما فيه روح. ولما كان أكل السمك من مظاهر الاحتفال بشم النسيم وتمسك المصريين بعاداتهم وأعيادهم التى لا تتعارض مع الدين الجديد يقارب المستحيل فقد تقررغالبًا نقل الاحتفال به إلى ما بعد عيد القيامة مباشرة حتى يتسنى لهم أكل الأسماك وإبداء مظاهر الاحتفال، وما زال هذا التقليد متبعًا حتى يومنا هذا. وقد احتفظت لنا إحدى البرديات بأغنية لأحد المحتفلين الذى جاء إلى ضفاف النيل يقول فيها: حمدًا للنيل..ينزل من السماء، ويسقى البرارى البعيدة عن الماء، وينتج الشعير والحنطة ويمنحنا الأسماك، وهو الذى يحدد الأعياد للفلاح. اللغة القبطية هذا وتقول هاجر سعد الدين مصطفى سعد الباحثة المتخصصة فى الآثار واللغة القبطية أنه يتساءل الكثيرون عن سرّ ارتباط عيد شمّ النسيم المصرى بعيد القيامة المجيد، وأيضًا يتساءلون عن سبب تغيير موعد العيدين من عام لآخر، وعلى أى أساس يتمّ تحديد الموعِد..؟! ولماذا يختلف موعد الاحتفال أحيانًا بين الطوائف المسيحيّة المتعدّدة..؟ وأوضحت: عيد شمّ النسيم هو عيد مصرى قديم، كان أجدادنا المصريون يحتفلون به مع مطلع فصل الربيع، وكلمة «شم النسيم» هى كلمة قبطيّة «مصريّة» ولا تعنى «استنشاق الهواء الجميل»، بل تعني: «بستان الزروع».. «شوم» تعنى: «بستان»، و«نيسيم» تعنى: «الزروع»، وحرف «إن» بينهما للربط مثل of بالإنجليزيّة.. فتصير الكلمة «شوم إن نيسيم» بمعنى «بستان الزروع».. وقد تطوّر نطق الكلمة مع الزمن فصارت «شمّ النسيم» التى يظنّ الكثيرون أنها كلمة عربيّة، مع أنها فى الأصل قبطيّة «مصريّة». وبعد انتشار المسيحيّة فى مصر حتى غطّتها بالكامل فى القرن الرابع، واجه المصريون مشكلة فى الاحتفال بهذا العيد «شم النسيم»، إذ أنه كان يقع دائمًا داخل موسم الصوم الكبير المقدّس الذى يسبق عيد القيامة المجيد، وفترة الصوم تتميَّز بالنسك الشديد والاختلاء والعبادة العميقة، مع الامتناع طبعًا عن جميع الأطعمة التى من أصل حيوانى.. فكانت هناك صعوبة خلال فترة الصوم فى الاحتفال بعيد الربيع، بما فيه من انطلاق ومرح وأفراح ومأكولات، لذلك رأى المصريون المسيحيُّون وقتها تأجيل الاحتفال بعيد الربيع «شمّ النسيم» إلى ما بعد فترة الصوم، واتفقوا على الاحتفال به فى اليوم التالى لعيد القيامة المجيد والذى يأتى دائمًا يوم أحد، فيكون عيد شمّ النسيم يوم الاثنين التالى له. وبخصوص تحديد موعد عيد القيامة، فهذا له حساب فلكى طويل، يُسمَّى حساب «الإبَقطى»، وهى كلمة معناها: «عُمر القمر فى بداية شهر توت القبطى من كل عام.. تمّ وضع هذا الحساب فى القرن الثالث الميلادى، بواسطة الفلكى المصرى «بطليموس الفرماوي» «من بلدة الفرما بين بورسعيد والعريش» فى عهد البابا ديمتريوس الكرَّام «البطريرك رقم 12 بين عاميّ 189م- 232م» وقد نُسِبَ هذا الحساب للأب البطريرك، فدُعِى «حساب الكرمة». وهذا الحساب يحدِّد موعد الاحتفال بعيد القيامة المجيد بحيث يكون موحَّدًا فى جميع أنحاء العالم، وبالفِعل وافق على العمل به جميع أساقفة روما وأنطاكية وأورشليم فى ذلك الوقت، بناء على ما كتبه لهم البابا ديمتريوس الكرَّام فى هذا الشأن، ولمّا عُقد مجمع نيقية عام 325م أقرّ هذا الترتيب، والتزمت به جميع الكنائس المسيحيّة حتى عام 1582م. وحيث إن الفصح يكون فى يوم 14 من الشهر العبرى الأول من السنة العبريّة «القمريّة».. فلابد أن يأتى الاحتفال بعيد القيامة بعد اكتمال القمر فى النصف الثانى من الشهر العبرى القمرى، وأيضًا لأن الفصح اليهودى مرتبط بالحصاد، عملًا بقول الرب لموسى «لا23: 4-12»، والحصاد عند اليهود دائمًا يقع بين شهرَى إبريل ومايو «وهى شهور شمسيّة»، لذلك كان المطلوب تأليف دورة مزيج من الدورة الشمسية والدورة القمريّة، ليقع عيد القيامة بين شهرى إبريل ومايو، فلا يقع قبل الأسبوع الأول من إبريل أو يتأخّر عن الأسبوع الأول من شهر مايو والحساب فى مُجمله هو عبارة عن دورة تتكوَّن من تسعة عشر عامًا، وتتكرَّر، وعلى أساس هذا الحساب لا يأتى عيد القيامة قبل 7 إبريل ولا بعد 8 مايو، ثمّ يأتى عيد شمّ النسيم تاليًا له. العصور الإسلامية وفيما يتعلق بشم النسيم فى عصور الحضارة الإسلامية، قال شريف فوزى المنسق العام لشارع المعز أن عيد اليوم الجديد أو النيروز باللغة الفارسية أو الربيع وبداية السنة القبطية، وقد شهدت مصر الاحتفال بشم النسيم، وذلك فى العصور الوسطى بدءًا من العصر الفاطمى ومرورًا بالعصر الأيوبى ثم الذروة فى العصر المملوكى، ورغم الاسم الفارسى لعيد الربيع وهو النيروز ومحاولة البعض نسبته لإيران قبل الإسلام فى عهد الملك جمشيد.. إلا أن الأصل الفرعونى حاضر وموجود بقوة، خاصة لارتباط هذا الكرنفال بنهر النيل والذى احتفل به المصريين على السواء باختلاف ديانتهم بالتراشق بالمياه والبيض، وأيضًا النطوع وهى عبارة عن شلت من الجلد للجلوس عليها ومنها ربما جاء وصف الشخص البارد أو غير المتحرك، ونشيط بالنطع أى الثابت فى مكانه ولا يتأثر أو يتحرك، وكان لا يسلم صغير أو كبير من العامة أو الأمراء من فاعليات هذا المهرجان. وكان فيه أيضًا أن يقوم أحد الأشخاص بركوب أحد الحمير ودهان وجهه بالدقيق أو الجير، وارتداء الطرطور ويمسك هو ومن معه دفتر وجريد النخيل ويقومون بالمرور على البيوت والأسواق لجمع النقود ومن يرفض يسمع بعض الشتائم أو يرش بالماء القذر وفى العصر المملوكى قام برقوق قبل أن يتسلطن بمنع هذا الكرنفال إلا أن ابنه فيما بعد السلطان فرج قد إعاده ونظرًا للظروف الاقتصادية التى بمرت بها الدولة المملوكية فى أواخر عصرها بدأت تلك المظاهر المصاحبة للعيد فى الاختفاء رويدًا رويدًا وليس العيد نفسه. وربما بسبب سعى المصريين للخروج من ظروفهم الاقتصادية فى العصور الوسطى، ومن تلك الأعياد عيد النيروز والذى كان من مظاهر الاحتفال به منذ العصر الفاطمى والأيوبى، حيث توقد النار فيه لإنارة الشوارع ورش الماء، والذى تحول فى العصر المملوكى لعادات سيئة مثل رش المياه غير النظيفة على الناس فى الشوارع، وكذلك شرب الخمر والغناء بأصوات عالية وأحيانًا تتعطل الأسواق وتقدم فيه الفواكه والحلوى والشموع الملونة، ورغم إيقاف هذا العيد فى بعض الفترات المملوكية إلا أنه انتقل إلى الإقطاعيات والمتنزهات والخلجان خارج العاصمة.