إن ما يحدث في سيناء الآن يذكرني بما حدث إبان مفاوضات نصوص اتفاقية «كامب ديفيد» التي أبرمها السادات مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني مناحم بيجين تحت رعاية جيمي كارتر الرئيس الأمريكي الأسبق عام 1978 وكانت هناك خلافات شديدة حول الشروط المجحفة التي أصرت عليها إسرائيل وفي المقابل تساهل الرئيس السادات في قبولها الأمر الذي أدي إلي استقالة وزيري خارجية مصر في شهر واحد أثناء المحادثات التمهيدية، وقد بدأ وزير الخارجية المصري آنذاك إسماعيل فهمي بالاعتراض ثم التذمر ورفض التنازلات المجانية التي قدمها السادات للعدو الصهيوني بلا ضمانات أو شروط مماثلة وانتهي إصرار إسماعيل فهمي علي موقفه بالاستقالة محذراً في كل أجهزة الإعلام من مغبة ما يقدمه السادات من تنازلات وجاء بعده إبراهيم كامل وزيراً للخارجية وما هي إلا أيام حتي فوجئنا باستقالته المسببة وأهم ما ورد فيه اعتراضه الشديد علي شروط الإذعان التي تصر عليها إسرائيل وتساهل السادات في تقديم تنازلات هائلة تمس سيادة مصر علي أراضيها دون المساس بسيادة إسرائيل وجاء بعدهما بطرس غالي وزيراً للخارجية وتم التوقيع علي اتفاقية السلام بين عدو لا يعرف سوي الغطرسة والغرور، وجاء في مذكرات بطرس غالي وأسامة الباز وإسماعيل فهمي وإبراهيم كامل.. تفاصيل كثيرة ولكن اتفق الجميع علي أن السادات كان مصراً علي توقيع الاتفاق رغم أن كل مستشاريه ووزرائه حذروه من خطورة ما جاء في الاتفاق من تنازلات تمس سيادة مصر علي أراضيها خاصة فيما يتعلق بأعداد ومعدات القوات المصرية في سيناء التي قسمت إلي ثلاث مناطق «أ، ب، ج» وتم تحديد عدد القوات ونوع التسليح وعدد الدبابات والمدرعات و.. و.. وسرت شائعة تكاد ترقي لمرتبة اليقين آنذاك أن هناك ملاحق وبنودا سرية أسوأ بكثير مما أعلن وجاء في نصوص معاهدة السلام ولكن أخطر ما في الأمر ما جاء في مذكرات جيمي كارتر راعي اتفاق الذي تفرغ للقيام بالوساطة بين السادات وبيجين عبر رحلات مكوكية بين تل أبيب والقاهرة فقد ذكر كارتر وقائع خطيرة توضح لنا أسباب ما نعيشه الآن من وضع متردٍ وما آلت إليه الأمور من فساد وإفساد وضعف وهوان مصر لدي كل دول العالم وتراجع مكانتها الدولية في جميع المحافل الدولية علي مستوي كل الدوائر السياسية سواء كانت إقليمية أو أفريقية أو دولية أو عربية، وقد بدأ هذا التردي بموافقة السادات علي تقديم هذه التنازلات علي طبق من فضة للعدو الصهيوني وجاء مبارك ليكمل منظومة التنازلات وزاد الطين بلة أننا ابتلينا بمشروع التوريث مما أدي إلي انسحاقنا وانبطاحنا أمام الكيان الصهيوني في مقابل تمرير مشروع التوريث. أعود لأذكركم بأخطر ما جاء في مذكرات الرئيس كارتر حين رصد المفارقات المعقدة في الآليات الدستورية لاتخاذ القرار في دولة إسرائيل وعشوائية اتخاذ القرار في دولة مصر ومدي انفراد السادات بالرأي، حيث كان مناحم بيجين يهدد كارتر والسادات معاً بالضغوط الشعبية والضغوط السياسية التي يتعرض لها من الأحزاب المعارضة في الكنيست الإسرائيلي والتي تعارض إبرام المعاهدة ويتخذ من هذه الضغوط أسبابا لرفض أي تنازلات ويضيفها لحسابات قوة موقفه التفاوضي ويضغط بها علي السادات ليقدم له مزيدا من التنازلات فهو يعتبر الضغوط الشعبية قوة مضافة وتعزيزا لتشدده ويتحدث كارتر في المقابل عن الوضع المعكوس في مصر، حيث كان السادات يعتقل علي الأصوات المعارضة للاتفاقية ويكمم الأفواه ويمنع نشر أي مناقشة لنصوص الاتفاقية ويمنع أي موقف احتجاجي ضد اتفاقية كامب ديفيد بل إنه بطش ونكل بكل الأصوات المعارضة واعتقل كل القوي الوطنية والسياسية من جميع الاتجاهات والألوان والأطياف في سبيل تمرير الاتفاقية دون أن يستمع لأي صوت معارض أو يضيف هذه القوي الشعبية لمعادلة الضغط علي إسرائيل ليعزز موقفه التفاوضي. فيروي جيمي كارتر هذه الواقعة في مذكراته فيقول إنه كان يذهب إلي مناحم بيجين في تل أبيب ليعرض عليه بعض بنود الاتفاق التي وضعها السادات فيطلب مهلة من الوقت حتي يتسني له دعوة الكنيست الإسرائيلي ومجلس الوزراء لمناقشة هذه البنود مع اللجان المتخصصة في الكنيست حيث سيطلع عليها خبراء الأمن القومي والشئون السياسية والعسكرية وفقهاء القانون الدولي، ويخطر كارتر إما للبقاء في إسرائيل يومين وربما ثلاثة أيام وقد يغادر تل أيب عائداً لواشنطن ويعود بعد عدة أيام ليجد رفضاً تاماً من قبل بيجين لكل البنود التي عرضها السادات أو موافقة علي جزء بسيط منها مع إدخال تعديلات لصالح إسرائيل ورفضه معظم البنود الباقية. ويواصل كارتر روايته فيقول: وفي المقابل كان بيجين يقدم لي مسودة بعض البنود لأقدمها للسادات وما إن تقع عيني عليها حتي أنزعج بشدة وأطلب منه بعض التعديلات خشية أن يراها السادات فيغضب وتفشل المفاوضات ويرفض مواصلة الحديث مجدداً عن معاهدة السلام، ولكن بيجين الذي كان قد أدرك كيف يفكر السادات كان ينظر إلي مبتسما بدهاء ويقول لي اعرضها علي الرئيس السادات أولاً ثم نتناقش في التفاصيل فأذهب للقاء السادات في القاهرة تملؤني المخاوف من تقديم هذه الطلبات المجحفة ولكنني أفاجأ بالرئيس السادات يجلس معي في صالة كبار الزوار وينظر في الأوراق ويبتسم مسروراً ويقول لي: اذهب إلي بيجين وقل له بأن السادات وافق علي كل شروطك. ويروي كارتر أنه كان يري ذلك أمامه ويندهش من السرعة التي وافق بها السادات دون أن يعرض هذه الأوراق علي مستشاريه أو مساعديه دون أن يأخذ موافقة المجالس التشريعية أو وزرائه أو لجانه وخبرائه المتخصصين. وأذهب إلي بيجين فيضحك قائلاً: ألم أقل لك اذهب أولاً للسادات وبعد ذلك نتناقش في التفاصيل؟ هكذا كانت تؤخذ الأمور ولهذه الأسباب ضعفت مكانة مصر عربياً وإقليميا ودوليا لأن حكامنا كانوا يطرحون القوي الشعبية من معادلات القوة ويستبدون بالحكم والرأي والقرار والحاكم بدون شعبه ضعيف ولن يكون قويا إلا إذا أضاف قوة شعبه إلي رصيده. واليوم كل الشعب يقف خلف قواته المسلحة واليوم سنري إسرائيل عين الشعب المصري «الحمراء» واليوم يجب علي إسرائيل أن تضيف إلي قوة المجلس العسكري كل قوي الشعب الغاضبة وعلي إسرائيل أن تحسب من اليوم ألف حساب لأن الشعب المصري سمح له بأن يعبر عن رأيه في ممارسات إسرائيل العدوانية.. بصراحة لا أحد يريد الحرب نحن شعب يحب السلام ولكن سلام الأقوياء سلام عادل يحفظ لمصر كرامتها وسلامتها وسيادتها وعزتها وترابها الوطني وإذا كانت موازين الحكام تستبعد من معادلاتها الشعوب فهؤلاء الحكام واهمون.