لا قيمة بلا محددات.. لأنه لا قيمة بلا تقييم.. لأنه لا قيمة في المطلق. ولكي لا نغوص من أولها في مواعظ تجريدية دعونا نبدأ من أول الحكاية. يحكي أن أحد رجال علم الاجتماع والإنسان، اسمه مونتاني ذهب يوماً لدراسة بعض قبائل أكلة لحوم البشر في مجاهل المجاهل.. وبعد انقضاء أعوام، وبعد أن توثقت علاقته بهم، واقترب من فهم عالمهم العجيب، وبعد رحلة طويلة قطعها؛ بدأت بالنظر ثم التأمل ثم الفهم ثم التفهم، ظلت فكرة أكلهم لمن توفي منهم، معلقة في حلقه، لا يملك مضغها ولا تساعده نفسه علي بلعها، ولا يمكن أن يبصقها في وجوههم كذلك.. فكان أن ناقشهم في الأمر.. فجاءت إجابتهم لتعكس استنكارهم من السؤال، ولاحظ أنه استنكار مساوٍ في المقدار ومضاد في الاتجاه.. بمعني آخر استنكارلا يقل عن استنكاره.. إذ إن القوم أجابوه بما يعني :"يعني يا برنس.. أنت عايز لما حد مننا يموت، نسيبه في الأرض للدود وألا نحرقه علي عود.. ده كلام يا أخ مونتاني". أي أن القوم كانوا يعتقدون أنه أكرم لتلك الجثث أن تحفظ في أجساد محبيها.. ولسان حالهم يقول: أليس أولي بمن أختلط حبه بدمائنا أن نحفظه في ذلك الدم مثلما سنحفظه في الذاكرة.. وبعيداً عن منافاة هذا المنطق للمنطق السائغ لدينا.. وقبل أن تنهال علينا كلمات "العيب"، "الحرام"، "الهمجية"، "الوحشية"... إلخ.. استمهل القارئ -أن يأخذني علي قد عقلي- فيما تبقي من سطور المقال.. ذلك أن سلوك القبيلة لنا أن نرفضه أو نقبله، لكن يجب من باب العقلانية أن نحدد إن كان يحكمه منطق أم لا؟! منطق قد نرفضه أو نقبله هذا حقنا تماماً، لكننا لا نملك أن ننفي عنه صفة المنطقية ما دام كذلك.. وبقول آخر نملك أن نصف سلوكهم بالهمجي ولا نقبل المنطق الذي يبرره.. لكن هم كذلك يملكون اعتبار ترك الجثة للدود همجية ولا يبررها أننا نؤمن بأن الروح هي الأهم. الشاهد أن المنطق الأخلاقي الذي يصوغ سلوكهم والذي يمكن أن نسميه المرجعية هو الذي حدد القيمة. هكذا تستوعب الثقافات المختلفة فكرة نسبية الثقافة.. نسبية الحقائق.. وتتقبل غرابتها لكن تلك الغرابة تبقي مستوعبة عندما توضع داخل سياقها أو نسيجها أو نسقها الذي أفرزها. كل هذا بديهي ومعروف ومفهوم ومقبول ومستوعب لكننا في زمن المراجعة، وفي لحظات ينبغي فيها علينا أن نخرج القيم والأفكار والبديهيات لنعيد تمريرها علي مصفاة جديدة فنقبل منه ما نقبل ونرفض منه ما نرفض.. لماذا ؟! لأن واحدة من أعتي وأشرس وأثبت وأرسخ ركائز نظامنا السياسي المترنح هي فكرة اللا قيمة أو اللا محدد أو اللا مرجعية.. يعني تغييب الميزان أو الترمومتر أو العداد أو المجس الذي يستطيع أن يعاير الأمور والبشر.. وبالتالي يتساوي الغث بالسمين.. واللحم بالسمين.. سيقول الطيبون من الناس: لم يكن الأمر إلا قلة معرفة أو إهمال أو سوء تقدير.. لكن دعنا نستطرد في شرح مكتسبات المساواة المضللة لنعرف إنها كانت دائماً بفعل فاعل.. عارف نفسه كويس. أولاً: عندما تحدث المساواة المضللة بين أحمد وزدحمد.. لا ينكشف الغطاء عن الأقل قيمة.. وما دام ذلك كذلك.. يظل لصانع القرار مطلق الحرية في الاختيار.. يعني مديرك يعلي عليك قليل القيمة أو حتي عديم القيمة للمرتبة التي يشاء، وسلم لي ع الملة. ثانياً: إن الأعلي قيمة ينسحق حين لا يجد ما يبرر به مظالمه أو شكواه.. حيث لا يوجد معيار.. وهنا تغيب مستحقاته بعد غياب الدليل عليها.. وهو الأمر الذي سيفضي به إلي أحد السيناريوهات المتوقعة.. يبطل كفاءة ويعمل بنفس طريقة عديمي الكفاءة، ليقلل من إحساسه بالظلم، هذا إن لم يكن علي سبيل الانتقام.. أو يتنامي لديه الشعور بالاضطهاد الممتزج بالعظمة والمعروف اختصاراً بالبارانويا.. أو أن ينكسر فيموت مهزوما مدحوراً مكتئباً.. ثالثاً: ضرب القيمة ذاتها.. يعني بمنطقنا الحميد "اضرب المربوط يخاف السايب".. يعني عندما ينهزم النموذج الجاد المجتهد الكفء.. ويرقي ويمجد ويعلي شأن الأقل في الكفاءة، يميل كثيرون من المتطلعين لتلك المكانة بطبيعة الحال - إن لم يكن كلهم - للنموذج الذي يحقق النجاح ونمطه في السلوك وأسلوبه في التعاطي مع المشكلات.. يعني ضرب النموذج الإيجابي في مقتل. رابعاً: عدم انكشاف الرؤساء.. عدم معاينة حجمهم الحقيقي عندما يحيطون أنفسهم بمنعدمي الموهبة والكفاءة والابتكار، حيث يتصور رئيس من هذا النوع أن وجود هذا الكفء وصعوده سيعني مقارنته به والتي تنتهي لصالح الكفء.. إذن في الوقت الذي يبدي هذا الرئيس شيئاً من اللؤم والدهاء عبر إحاطة نفسه بالأغبياء، هو يضع حول نفسه برواز ويعلم علي روحه بانعدام الثقة بالذات.. أستغفر الله بل احتقار الذات. فيا بناة هذا الوطن من جديد؛ الوطن الوطن في المعايير، شبعنا قلة قيمة.