حالة من الارتياح المشوب بحذر خلقتها تصريحات وزير الداخلية منصور العيسوي د.عبدالمنعم المشاط الذي قال إن جهاز الأمن الوطني سيكون جاهزًا لبدء عمله في مايو المقبل بدلاً من جهاز مباحث أمن الدولة الذي تم إلغاؤه وتحويله إلي قطاع تحت مسمي «الأمن الوطني» يختص بالحفاظ علي الأمن الوطني والتعاون مع أجهزة الدولة لحماية الجبهة الداخلية ومكافحة الإرهاب. أولي خطوات تفعيل الجهاز الجديد جاءت بقرار تعيين اللواء حامد عبدالله مساعد أول الوزير لشمال الصعيد رئيسًا للقطاع الوليد وهو الرجل المشهود له بالنزاهة والسجل النظيف، وخلو ملفه الشخصي من ثمة شوائب سواء علي المستوي الشخصي أو العملي وهي دلالة أو رسالة طمأنة من قبل وزير الداخلية لكن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة الآن هو كيف يري الخبراء تلك الخطوة، وهل هي كافية لإصلاح ما فسد قبل 25 يناير؟ خبير الأمن القومي الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة د.عبدالمنعم المشاط يري أن القرار تغيير إيجابي لكنه لا يرقي إلي مستوي وروح الثورة المصرية موضحًا إمكانية النظر إليه باعتباره قرارًا انتقاليًا لمرحلة انتقالية في وزارة انتقالية يطلق عليها مرحلة «الفرز أو التمهيدية» بمعني خطوة إلي الأمام يمكن تقبلها بحذر. في حين يتخوف اللواء محمد كامل خبير الإرهاب الدولي من قرار حل الجهاز علي هذا النحو المتسرع، وفق تعبيره، لمجرد تهدئة الرأي العام ونزع اختصاصاته ومهامه وهو ما لا يجوز أمنيًا لما قد يسببه من خلل خطير بمنظومة الأمن القومي للبلاد كونه جهازًا قائمًا علي التصدي للجرائم المخلة بأمن الدولة ومهام الحراسات الأمنية ذات الطبيعة الخاصة والمهام الطارئة بجميع روافدها علي مستوي الجبهة الداخلية من إرهاب وتجسس. بينما اتفق نائب رئيس المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط والخبير الأمني د.محمد مجاهد الزيات مع الطرحين السابقين، إذ يؤكد حتمية إعادة هيكلة وصياغة «القطاع الجديد» وفقًا لمجريات الأحداث والمرحلة الحالية والمقبلة التي يشهدها الحراك المصري بما يحترم الدستور والقانون والحريات الشخصية والعامة دون المساس بمهامه القومية التي لا غني عنها بأي حال، وإذا كان هذا هو رأي الخبراء في خطوة حل جهاز أمن الدولة وإنشاء جهاز جديد باسم الأمن الوطني، فماذا عن تبعية هذا الجهاز؟ يقول اللواء محمد كامل: أعتقد أن هذا الطرح بالغ الأهمية نظرًا للظرف المحلي والإقليمي والدولي الراهن وفصل القطاع عن وزارة الداخلية حتمي كي يضطلع بدوره الرئيسي والمهم في مكافحة الإرهاب وغيرها من مهام تتعلق بالأمن القومي المصري الداخلي وتحدياتها شأنه في ذلك شأن الFBI بالولايات المتحدة، الMI5 بالمملكة المتحدة علي أن تتفرغ وزارة الداخلية لمهام الأمن الجنائي المحلي والخدمي المقدم للمواطن وإعادة صياغة المعاملة مع المواطن والاحترام المتبادل. فيما يذهب عبدالمنعم المشاط إلي أبعد من ذلك حيث يري ليس فقط فصل القطاع عن وزارة الداخلية بل وضع قانون وهيكل منظم له يفتقده حاليًا بمعرفة ممثلي الأمة وليس شرطًا أن يكون رئيس الجهاز أو العاملون به من ضباط الشرطة بل ومن المدنيين أصحاب الاختصاصات العلمية والفنية المعنية بطبيعة مهام الجهاز علي أن تتم مراقبة نشاط الجهاز المستقل ومساءلته من قبل ممثلي الأمة ورئيس الدولة مع الوضع في الاعتبار الحفاظ علي سرية المعلومات وهذه الجزئية تحديدصا اعترض عليها اللواء كامل فقد تحفظ علي فكرة الاستعانة بعناصر مدنية علمية أو فنية بجهاز الأمن الوطني رغم كونه النظام المعمول به بجهاز المخابرات العامة حيث يري ضرورة أن يكون العاملون بالقطاع ممن أمضوا ما لا يقل عن خمس إلي عشر سنوات بقطاع الأمن العام واكتسابهم خبرة أمنية مميزة ونظرا لطبيعة المهام الموكلة إليهم. ومن جانبه يري محمد الزيات أن المشكلة ليست في العناصر العاملة بالجهاز السابق ولكنها تكمن في قيادات الجهاز فهو جهاز له وظائف محددة ترتكز بالأساس في محاولة تحصين الجبهة الداخلية لمصر ضد الاختراقات الخارجية أو التأثيرات الداخلية لنشاط هدام مجتمعيًا أو مواجهة أنشطة تخريبية وعصابات منظمة وجرائم عابرة للقارات يمكن أن تهدد الأمن القومي وهي علي هذا المستوي لا تتعلق بإجراءات أمنية ضيقة لكنها تنسحب إلي مواجهة الإرهاب العالمي والجريمة المنظمة وعمليات خطف الطائرات أو الرهائن والتخريب الاقتصادي. ويضيف: الذي حدث في السنوات الأربعين الماضية كان عدم وجود قوانين تحكم أداء الجهاز ومساءلته إضافة لمهام سياسية للجهاز لم يكن منوطًا به القيام بها وبالتبعية لابد من تضخمه وتوحشه كبداية منطقية لنهاية معلومة وهو ما حدث. ويضيف اللواء كامل: إننا في ظل هذه «الهوجة» يجب ألا ننسي أن هناك عناصر علي قدر كبير من الاحتراف أدت دورها في خدمة أمن مصر القومي وليس النظام ومنهم عناصر مشهود لهم بالكفاءة من منظمة الأممالمتحدة خاصة في مجال مكافحة الإرهاب الدولي والجريمة المنظمة وعملوا في قطاعات لم تلوثها التوجهات السياسية للنظام. وفي تقدير المشاط أنه لا غني عن وجود جهاز للأمن الداخلي ولكن بعد إعادة الهيكلة للنظام القديم ويكون بإحالة كبار قادة الجهاز ومديري الإدارات التي كانت تختص بمتابعة ملفات ونشاط القوي السياسية والأفراد والأحزاب والقوي الطلابية إلي التقاعد فليس من المتوقع أن يتغير فكر هذه القيادات التي تربت علي مشروعية استباحة حقوق الأفراد لتتوافق مع المتغيرات الجديدة بعد الثورة والتي ترتكز علي المحافظة علي حقوق الإنسان وحرية الأحزاب. السؤال الثالث والأهم هو كيف يري الخبراء آليات عمل القطاع المستحدث في حالة فصله عن وزارة الداخلية والذي تحكمه حاليًا اللوائح الداخلية للوزارة وكيفية مساءلته ومحاسبته وفقًا للنموذج المقترح؟ يري الدكتور المشاط اتساقًا مع مرحلة ما بعد الانتقالية أن يصبح جهازًا مستقلا خاضعًا لقوانين حاكمة ومنظمة لأدائه يتيح إمكانية مراقبته ومساءلته علي أن يكون رئيس الجهاز مرشحًا من قبل رئيس الجمهورية أو نواب الشعب وهي جهات مساءلته ومحاسبته وفق أدائه ولن نسمح بإعادة بناء قديم بواجهة جديدة. كما يتفق الدكتور مجاهد الزيات علي استقلالية القطاع عن وزارة الداخلية وأن يتم تعيين رئيسه من خارجه من خلال شخصية عسكرية من القوات المسلحة كما هو معمول به في جهاز المخابرات العامة علي مر تاريخها وأن يختاره رئيس الجمهورية ويصدق عليه مجلس الشعب خلال جلسة اجتماع يعرض فيها سياسة الجهاز وتتم مناقشته وتكون مدة رئاسته مرتبطة بمدة رئيس الجمهورية علي أن يتم تغييره مهما كانت كفاءته لأن طول مدة رئيس الجهاز تكرس نوعًا من الألفة مع بعض التجاوزات التي تصبح طبيعية وأن يتم إعداد قانون خاص بالجهاز يحدد بوضوح تام مهامه وصلاحياته الرئيسية وآليات عمله واسلوب محاسبة العاملين فيه علي أن يتضمن هذا القانون تجريمًا واضحًا لأي تجاوزات لحقوق الإنسان أو انتهاك لحق الأفراد في التجمع والتظاهر وسرية الاتصالات والمحافظة علي أمن وسرية المساكن وأماكن العمل وغيرها علي أن يرفع تقاريره إلي كل من رئيس الدولة ورئيس الحكومة وتتم مناقشتها بصورة دورية للمحافظة علي سريتها. وشدد اللواء محمد كامل خبير مكافحة الإرهاب الدولي علي أن الهدف من استقلالية الجهاز عدم تعرضه لضغوط فوقية مباشرة واختفائه من تبعية الوزارة سوف تحصنه من الكثير من الشوائب وأيضًا سوف يكون انعكاسه إيجابيا علي دور الوزارة التي يجب أن تكون في خدمة الشعب فقط وليس النظام ولا يمكن لأحد الاسقاط علي أداء الجناحين الأمن الجنائي والأمن السياسي. وحول إمكانية مراقبة بعض الأشخاص الذين تحوم حولهم الشبهات في مجال تهديد الأمن القومي أو المرشحين لوظائف حساسة بالدولة تستدعي التحري. يقول اللواء محمد كامل: يتم ذلك وفق ضوابط قانونية ملزمة لا تتعارض والدستور والقانون وحقوق المواطن وهو ما يجب مراعاته منذ البداية وذلك من خلال إذن النيابة المختصة التي بدورها عليها أن تطمئن إلي جدية وحقيقة تلك الشكوك كما هو معمول به ومتبع في جهاز المخابرات العامة حيث لا يتم القبض علي أي شخص متهم بالتجسس أو الجرائم المتعلقة بجرائم الأمن القومي إلا بإذن وحضور وكيل النيابة شخصيا لحظة القبض علي أن يكون شاهدا أمام القضاء والتحقيق مع المشتبه به وتوفير جميع الضمانات القانونية له وفي حضور محام للدفاع عنه وهو المطلوب تطبيقه مع جميع الجرائم التي تتعلق بأمن الدولة. أما بشأن المرشحين لمناصب أو وظائف ذات طبيعة خاصة تستلزم التحري يقول الدكتور محمد مجاهد الزيات نائب رئيس المركز القومي لدراسة الشرق الأوسط: لم يعد طبيعيًا أن يتم التحري أو إعداد تقارير أمنية حول المرشحين للمناصب السيادية مثل الخارجية والنيابة علي سبيل المثال وغيرها ويكتفي في هذا المجال بصحائف الحالة الجنائية، كما يجب ألا يحاسب المرشحون لهذه الوظائف علي أساس ضعف مستواهم الاجتماعي إذا كانت الأسرة فقيرة لكنها مشهود لها بالشرف وليس بينها تجار مخدرات وما هو مخل بالكيان الأسري جنائيًا أو بالإرهاب والجرائم المخلة بالشرف بأحكام قضائية نهائية وليس بالاشتباه. يقول مجاهد الزيات: إن عمل المخابرات العامة يختلف كليًا فهو جهاز معلوماتي بالدرجة الأولي في مقاومة عمليات التجسس والحصول علي المعلومات من الدول المختلفة التي تمس الأمن المباشر والمصالح القومية لمصر ثم مواجهة أي اختراقات من الخارج رلي الداخل إضافة إلي محاولة تحصين وتأمين المكاتب والمؤسسات المصرية في الخارج ومواجهة عمليات التجسس الاقتصادي والعلمي من خلال كوادر علمية متخصصة ومؤهلة وكذلك تأهيل جميع الكوادر المصرية التي تعمل بالخارج لتحصينها ضد محاولات التجنيد من الأجهزة الأجنبية كما أنها بمثابة الإنذار المبكر ضد كل ما يهدد المصالح المصرية في دول حوض النيل والدول العربية والإقليمية ولا يمكن أن تستغني المخابرات العامة عن دور جهاز أمن الدولة سابقًا لأنها لا تملك الانتشار الداخلي الذي يسمح بدور أكثر من متابعة النشاط الخارجي ذات الطابع الاستخباري في المناطق والمدن التي توجد فيها شركات أجنبية أو متعددة الجنسيات. اللواء حامد عبدالله أعرفه عن قرب ومشهود له بالنظافة بما تحمله الكلمة من معانيها الدقيقة وهو فرصة لانتفاء الصالح واستبعاد الفاسد لتطهير الجهاز بعد تفكيكه وإعادة هيكلته ليصبح مستعدًا نفسيًا ومعنويًا وأدبيًا لما هو مقبل عليه من مهام عهدناها بعيدة عن التجاوزات، إن المشكلة لم تكن أبدًا فيمن سوف يجلس علي قمة الجهاز الجديد، ولم تكن أبدًا في رفع لافتة «جهاز أمن الدولة» ووضع لافتة «جهاز الأمن الوطني» في مكانها.. وإنما كانت المشكلة، ولا تزال، في الطريقة التي سوف يعمل بها الجهاز الجديد، ثم في ضمانات ألا نجد أنفسنا، بعد عام من الآن، أو عامين، أو ثلاثة، أو أكثر أو أقل، أمام جهاز مباحث أمن الدولة القديم ذاته، ولكن في ثوب مختلف!