اتسم الموقف الأمريكى خلال السنوات الثلاث الماضية بتغيّر كبير، خاصة فيما يتعلق بسياسته المتعلقة بالشرق الأوسط، وهو ما تسبب فى توترات فى علاقاتها بتلك الدول وجعل البعض يرى أن هناك تراجعا للدور الأمريكى فى المنطقة. وفى إطار الاهتمام الإسرائيلى بهذا الأمر أعد السفير الإسرائيلى السابق فى القاهرة «تسيفى مزئيل» تقريرا يحمل عنوان «ماذا تريد الولاياتالمتحدة من الشرق الأوسط؟»، ونشره فى «المركز المقدسى للعلاقات العامة». لفت «مزئيل» فى بداية تقريره إلى تصريحات له مصدر بوزارة الخارجية الأمريكية لصحيفة كويتية أن جماعة «الإخوان المسلمين لا تشكل خطورة على الولاياتالمتحدة، وأنه لم يتوجه أحدا للولايات المتحدة بطلب لضم جماعة الإخوان لقائمة المنظمات الإرهابية. متسائلا حتى لو لم يطلب أحدا من الإدارة الأمريكية هذا، فهل هذا هو الوقت المناسب للإعلان فى الوقت الذى تدير فيه الجماعة حربا إرهابية ضد مصر، الحليفة الرئيسية للولايات المتحدة فى العالم العربي، وبعد أن أعلنت كل من القاهرة والرياض جماعة الإخوان تنظيما إرهابيا. رأى السفير الإسرائيلى السابق فى تلك التصريحات أهمية سياسية بالغة، فهذا التصريح من دون شك رأى فيه «الإخوان» تأييدا لهم، وأن هذا تعبيرا واضحا لمواصلة السياسات الأمريكية الداعمة لجماعة الإخوان منذ الإطاحة بنظام «مبارك» فى 2011، والتى كان أبرزها تجميد المساعدات العسكرية لمصر بعد الإطاحة بالرئيس الإخوانى المعزول «محمد مرسي». قائلا إن السؤال هنا: ما هو المنطق وارء تلك السياسات، فقبل سنوات قليلة تفاخر الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» بقتل الإرهابى الأكبر «أسامة بن لادن» الذى تلقى تعليمه على طاولة جماعة «الإخوان» وعلى أيدى اثنان من أهم أقطابها، وهما «عبدالله عزام» و»محمد قطب». «عزام» كان فلسطينى الجنسية وعضو جماعة «الإخوان» بمصر والأب الروحى ومعلم «بن لادن» والذى شاركه فى إنشاء تنظيم القاعدة. أما «قطب» فكان أستاذا للعلوم الإسلامية بجامعة «الملك عبدالعزيز» فى جدة، وشقيق «سيد قطب»، مفكر الجماعة الذى تم اعدامه خلال عهد الرئيس الأسبق «جمال عبد الناصر»، ولكن فكره ظل المصدر الرئيسى لأيديولوجية الإخوان والإسلام الراديكالى طوال القرن العشرين، والمسئول عن كافة العواقب الوخيمة لتلك الأفكار فى جميع أنحاء العالم. «محمد قطب» كان الموزع الأكبر لفكر الإسلام الراديكالى الذى ابتدعه أخاه «سيد قطب»، وعلمه لتلميذه «بن لادن» مؤسس «القاعدة» فيما بعد. كذلك الشيخ «عمر عبدالرحمن» الزعيم الروحى للجماعة الإسلامية التى اغتالت الرئيس المصرى «أنور السادات» عام 1981، والمتهم الأول وراء تفجير برج التجارة العالمى فى نيويورك عام 1993، والمعتقل حاليا فى السجون الأمريكية، وكان صديقا لبن لادن وحاربا سويا فى أفغانستان. وأوضح «مزئيل» أن «الجماعة الإسلامية» كانت احدى الجماعات الإرهابية التى انشئت خلال السبعينات على أيدى جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن أطلق «السادات» سراحهم من السجون. وقال إن هذا سرد مختصر لمآثر جماعة الإخوان والمنظمة الإرهابية التى انشأتها بإلهام منها وتسببت فى الكثير من القتل والتخريب، سواء فى الدول الإسلامية أو الغربية، بإسم الإسلام الذين يزعمون تمثيله، وهو ما أثار تعجبه من موقف الولايات الداعم لها. واستكر تجاهل الإدارة الأمريكية لهذا التاريخ الدموى لتلك الجماعات الإسلامية، وأن واشنطن لا تترد فى أن تعلن بوضوح أن الجماعة لا تمثل خطرا عليها، فهى خطوة غريبة عندما تتحدث الولاياتالمتحدة كثيرا عن أن المسلمين الأمريكيين ذوو العلاقة بجماعة الإخوان يعملون فى مناصب رفيعة فى البيت الأبيض ووزارة الخارجية حتى فى مكتب مكافحة الإرهاب. الضحية الأساسية للسياسات الأمريكية : مصر ورأى أن مصر - بلا شك- هى الضحية الأبرز للسياسات الأمريكية الداعمة لجماعة الإخوان، فهى فى حاجة ماسة للمعدات العسكرية التى قامت واشنطن بتجميدها، خاصة طائرات الآباتشى ومعدات المراقبة، والتى تستخدمها فى مكافحتها لجماعة الإخوان والمنظمات الجهادية الإرهابية. لافتا إلى أن سلطات الجمارك الألمانية أوقفت منذ فترة شحنة أسلحة كانت فى طريقها من بولندا إلى مصر، وهذا تطبيقا للحظر الذى فرضه الاتحاد الأوربيعلى مصر. تلك الخطوات تعنى أن كلا من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوربى اتخذوا خطوات ل»نبذ» مصر، الدولة العربية الأكبر التى تحارب الإسلام الراديكالي. ولعدم وجود خيار توجهت مصر إلى روسيا لتعزيز التعاون معها، ومن بين سبل التعاو تعزيز التعاون العسكرى بشراء صفقة أسلحة كبرى بقيمة 2.3 مليار دولار، حيث أفادت وسائل الإعلام المصرية أن القاهرة طلبت من موسكو الإسراع بتسليم صفقة مروحيات هجومية المدرجة فى االصفقة. زعزعة العلاقات بين الولاياتالمتحدة ودول الخليج العربي أضاف أن السياسات الأمريكية تتسبب أيضا فى خلق خلاف مع السعودية وباقى دول الخليج العربي، بعد أن ساد شعورا بأن واشنطن خانتهم وقامت بإجراء مفاوضات مع إيران، عدوتهم الكبري، للتوصل لحل وسط حول برنامج طهران النووي. وفى رد فعل معارض أعلنت كل من السعودية والإمارات والكويت تمويل صفقة الأسلحة الروسية إلى مصر. ورأى أنه كان من المفترض مع وصول الرئيس الأمريكى «أوباما» إلى السعودية الشهر الماضى تراجع حدة الخلاف ، خاصة أنه «أوباما» سعى لرأب الصدع، لكن الصدع مازال قائما. وأشار «مزئيل» إلى أن العلاقات بين الرياض وواشنطن اضطربت فى أعقاب الهجوم على برجى التجارة فى سبتمبر 2001 عندما اتضح أن 16 مخرباً من بين 18 من أصل سعودى ومن أبناء أسر كبيرة، وتم تحريضهم على ايدى نشطاء من «الإخوان المسلمين». لافتا إلى إعلان الرياض بأن جماعة الإخوان تنظيم إرهابي، وتنظيم القاعدة أيضا، وحددت عقوبات صارمة لمنفذى العمليات الإرهابية ، سواء داخل المملكة أو خارجها، فى الوقت الذى أصبحت فيه قطر وجهة الجماعة. وقامت كلا من السعودية والإمارات والبحرين بسحب سفراءهم من قطر، وطالبوا الدوحة بقطع علاقتها بجماعة الإخوان وأن توقف قناة الجزيرة دفاعها عن الإخوان والتدخل فى شئون دول الخليج الداخلية. واستطرد السفير الإسرائيلى السابق أن منطقة الشرق الأوسط لم تكن مستقرة قط، وأن تاريخ المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى وقيام القوميات العربية والغرق فى الحروب والانقلابات العسكرية والمذابح، فبرغم كم الموارد الطبيعية الهائلة التى أنعم الله بها على الدول العربية، إلا أنها لم تعمل على تطويرها وعلى تنمية اقتصادياتها، ودائما ما تم ذلك على أيدى قوى عظمى مثل بريطانيا وفرنسا والولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي. ومع اختفاء تلك القوى الاستعمارية وتفكك الاتحاد السوفيتى ظلت الولاياتالمتحدة القوى العظمى الوحيدة التى قسّمت مصالحها بين عدد من الدول العربية، مثل مصر والأردن ودول الخليج والمغرب، حيث طلبت تلك الدول التعاون مع واشنطن لمواجهة تهديدات نظام «آية الله» فى إيران والإرهاب المتزايد من جانب تنظيم القاعدة. الآن، فإن هذا التحالف ينهار، وربما لم يعد له وجود، ورأى أن فشل ما سمى ب»ثورات الربيع العربي» ودعم واشنطن له زاد من تفاقم الأوضاع فى المنطقة، وأصبح الشرق الأوسط فى حالة من الفوضى والضياع، فدول هامة مثل ليبيا والصومال وسوريا والعراق واليمن تفككت. والحكومات المركزية بها غير قادرة على فرض سيطرتها على الأجزاء الأكبر من البلاد، أو على توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين سواء من السلع أو الأمن. وفى لبنان، أصبحت منظمة «حزب الله» بمثابة دولة داخل الدولة، وباتت تسيطر على الجنوب اللبنانى كاملا، وتمتلك أسلحة ثقيلة ومتطورة، وتدخلها فى الحرب السورية قوض الأمن اللبناني، مما أثار الشكوك حول امكانية بقاء لبنان ذات سيادة موحدة. أيضا فى السودان، بعد أن فقدت الجنوب الذى كان غنيا بالنفط، تشهد أراضيها عدد من الصراعات القبلية العنيفة مثل ما يحدث فى دارفور وعدد آخر من المدن بالشرق، ولم يعد بمقدور السودان أن تتابع كدولة موحدة. أما مصر فهى تعانى من أزمة حادة، ويبدو أنها ستزيد، فى الوقت الذى تحاول فيه عدد من الممالك التقليدية الحفاظ على حكمها، مثل الأردن والمغرب والخليج الذين يحاولون الحفاظ على استقرارهم، ولكن لا أحد يعلم إلى متى سينجحون فى هذا. كما أشار إلى أن تفكك ليبيا فى أعقاب سقوط «القذافي» مثّل أزمة كبيرة، بالأخص لسقوط ترسانة الأسلحة الحديثة التى اشتراها من روسيا فى أيدى العناصر الإرهابية، وتم تهريب أجزاء منها إلى مصر وسيناء وغزة وسوريا ومالى ودول أخري. فيما تواجه الدول البرجماتية التهديد المتزايد من جانب إيران والقاعدة، ولم تعد قادرة على الاعتماد أكثر على الولاياتالمتحدة، خاصة أنه فى الأسابيع الأخيرة زادت إيران من تحديها للبحرين والسعودية والكويت، وأصبحت أقل حذرا مما كانت عليه فى السابق. أيضا عناصر تنظيم القاعدة التى تحدثت مؤخرا عن عزمها العودة للسعودية وبأعداد كبيرة، فالتطرف الإسلامى أصبح قنبلة موقوته فى الشرق الأوسط، وكل لحظة يمكن أن ينفذ هجوما استراتيجيا أو أن يفتح مواجهة أخري. وفى نهاية التقرير، قال «مزئيل « أنه فى ظل تلك الظروف يصعب للغاية فهم السياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط، لكن من الواضح للعيان أن جذور واشنطن تقلع من المنطقة وأنها ما زالت مستمرة فى تشجيع القوى المتطرفة، ومن المعروف أن الطبيعة لا تحب الفراغ، فيجب التوقع أن تقوم تلك القوات المتشددة لملء هذا الفراغ فى المنطقة، كأنظمة قائمة، وربما أن تعلن قيام دولتها. أعد مركز دراسات الأمن القومى الإسرائيلى «INSS» تقريرا عن التقديرات الاستراتيجية لإسرائيل خلال عام 2014، وضمن التقرير فصلا عن الدور الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط . وأوضح التقرير أن الشراكة الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة هى أحد الأعمدة الرئيسية لأمن إسرائيل وقدراتها على الردع، ولذلك فقد رأى التقرير أن أى ضعف فى مكانة واشنطن فى الشرق الأوسط يؤثر سلبا - وبشكل مباشر- على وضع إسرائيل الاستراتيجى. وأشار إلى أنه قد طرأ تغيير للمكانة الأمريكية فى المنطقة، فقد وهنت مكانة واشنطن ونفوذها فى الشرق الأوسط وفى عدة مناطق فى أرجاء العالم، وهناك إشارات إلى أن هذا الضعف الأمريكى نابع من فشلها فى العراقوأفغانستان، وسحب قواتها العسكرية من تلك الدول دون تحقيق الهدف المرجو من هذا الغزو العسكري. إضافة إلى سياستها تجاه تطورات «الربيع العربي» والتى تسببت فى إحداث تخوف لدى حلفائها فى المنطقة بأنها سوف تتخلى عنهم فى وقت الحاجة. وهناك يرى أن ضعف نفوذ الولاياتالمتحدة فى المنطقة يؤدى إلى إضعاف نفوذها أيضا على حلفائها فى الشرق الأوسط، خاصة مع ما تظهره واشنطن من استعدادات قليلة باستخدام القوة. وأضاف التقرير الإسرائيلى أن إدارة الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» نفسها قد أعلنت عن زيادة أهمية منطقة «شرق آسيا» فيما يفوق نسبيا الشرق الأوسط، وهو ما يشير إلى تراجع منطقة الشرق الأوسط فى قائمة أولويات واشنطن، حيث أعلنت عن تغيير اهتماماتها الاستراتيجية تجاه شرق آسيا. وفى الوقت نفسه تقترب الولاياتالمتحدة من الاستقلال الفعلى فى تكنولوجيا استخراج النفط والغاز فى أراضيها، وعلى ضوء هذه التطورات زادت المخاوف من أن تكون واشنطن ليست فى وضع ضعيف فقط بل أيضا تعتزم إهمال «الشرق الأوسط»، ولكن هذا التقدير بعيد ولا يعتمد على مبررات منطقية. وبحسب التقرير، فإن الإدارة الأمريكية سوف تستمر فى رؤيتها للشرق الأوسط كمنطقة «مهمة» بكل ما فى ذلك من معنى استراتيجي، وأنه مصدر الإرهاب الإسلامى وقناة السويس وأمن إسرائيل ومنع انتشار السلاح غير التقليدى ومنع الهيمنة الإيرانية... وغيرها من النقاط المحورية. ولفت التقرير إلى أنه فى ضوء زيادة الاهتمام الصينى بالمنطقة واعتماد بكين على الطاقة من الشرق الأوسط، يجب على الولاياتالمتحدة الاحتفاظ بمناطق نفوذ مهمة فى المنطقة.. ورأى المعهد الإسرائيلى أنه لا يمكن لأحد أن يحل كبديل للولايات المتحدة فى المنطقة، فالواقع يؤكد أنه لا يستطيع أحد أن يحل محلها أو أن ينفق كل هذه الموارد لمعالجة مشاكل المنطقة. وفيما يتعلق بالدعوات داخل إسرائيل بضرورة البحث عن حليف استراتيجى آخر غير واشنطن فإن هذا الأمر غير صحيح، خاصة لتاريخ البلدين منذ الإعلان عن قيام الدولية عام 1948، وتأييدها لإسرائيل خلال العدوان الثلاثى عام 1956 واصرت على استخدام الفيتو لمنع فرض عقوبات على تل أبيب، ناهيك عن المساعدات العسكرية التى تمنحها لها سنويا وتزيد على 3 مليارات دولار. إلا أن التقرير رأى أن الإدارة الأمريكية تدرك جيدا أن عدم معالجة مشاكل الشرق الأوسط سوف يضر بها، سواء فى عدم الاستقرار لسوق الطاقة العالمى أو عن طريق العنف الذى يأتى من المنطقة أو من خلال انتشار أسلحة الدمار الشامل. ووفقا لهذا الأمر فإن الأحاديث التى تدور عن تخلى واشنطن عن الشرق الأوسط أمر سابق لآوانه للغاية. مشددا على أن الانتهاجات الإسرائيلية لها تأثير كبير على وضع واشنطن فى الشرق الأوسط، وأن تل أبيب قد أساءت للجهود الدبلوماسية الأمريكية وأعطت انطباعا بأنها لا تستطيع التأثير على حلفائها القريبين جدا «إسرائيل»، وهو الأمر الذى لا يعزز مصالح وموقف الولاياتالمتحدة فى المنطقة، لذا رأى التقرير أنه يجب على الحكومة الإسرائيلية البحث فى كيفية دعم مكانة الولاياتالمتحدة فى الشرق الأوسط، ولكن مع الاستعداد لدفع أى ثمن سياسى أو آخر مرتبط بذلك الأمر. ومن أهم القضايا المشتركة بين إسرائيل والولاياتالمتحدة، ملف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، وملف النووى الإيراني. حيث أوصى التقرير بضرورة وضع خطة بديلة بالتنسيق مع واشنطن فى حالة فشل المحادثات مع إيران، حيث هذا الولاياتالمتحدة فى الوصول إلى أهدافها فى الملف الإيراني، وهى منع طهران من التحول لدولة نووية، منع هجوم عسكرى ضدها. وشدد التقرير الإسرائيلى أنه يجب على تل أبيب إدارة سياستها بالتنسيق المستمر مع الإدارة الأمريكية، وذلك لدعم وتعزيز فرصة التطبيق الناجح للبدائل التى ستطرحها فى جميع القضايا المطروحة، وهو ما رأى فيه أنه سيفيد فى دعم مكانة إسرائيل بالشرق الأوسط، وستسهل من تمهيد الطريق للحوار بين إسرائيل وبين الدول العربية المعتدلة.