تحالف واجب بعد «غزوة الصناديق» أظهرت نتائج الاستفتاء قدرا مهولا من الدلالات التي لابد أن نتوقف عند كل منها، في تحليل وقراءة صور مصر في الأيام المقبلة.. ولا شك أن القوي السياسية المختلفة إنما تلقت رسائل سياسية عديدة مما قاله المقترعون.. في صدارة ذلك تبين ما يلي علي الأقل: • تحظي القوي التقليدية في المجتمع المصري برصيد مهول وقدرة تأثيرية كبيرة علي الناخبين.. أتحدث هنا عن الشبكات العائلية والقبلية وأصحاب المواقع الاجتماعية في الريف ومن يملكون رصيدا سياسيا جماهيريا يقوم علي تراث بعضه حزبي وأغلبه خدمي.. «العمدة/ شيخ البلد/ ملاك الأراضي/ زعماء العائلات/ البرلمانيون السابقون/ النشطاء المحليون/ المهنيون المسيسون... إلخ». • تلقت القوي التي قامت بالفعل الثوري في 25 يناير معني واضحا يقول إن بينها وبين القطاعات الراغبة في استعادة الشارع لهدوئه مسافة كبيرة.. إذ قد تخيلت أن تبنيها لخيار الرفض للتعديلات الدستورية سوف يدفع الشعب كله إلي تأييد ذلك.. قياسا علي أن الجماهير قد ساندت عملية التغيير التي جرت بموجب الفعل الثوري.. وهو ما لم يحدث.. لقد اختارت الغالبية التعديلات.. رغم أنها لا تؤيد التيارات الدينية.. فقط لأنها تريد أن يمضي البلد في طريقه ونحو استقراره. • علي الرغم من التبني العلني من قبل التيارات الدينية للموافقة علي التعديلات الدستورية.. إلا أنها بدورها خرجت من الاستفتاء خاسرة.. وتواجه حملة رفض واسعة النطاق.. تتعلق كلها في رقبة جماعة الإخوان.. إذ لا يفرق الناس بين ما هو سلفي وما هو جهادي وما هو تبليغ وما هو إخواني.. وقد نتج عن ذلك بون شاسع بين النخبة المثقفة والجماعات المدنية والطبقة الوسطي العليا والرأسمالية الوطنية والمسيحيين وبين تلك التيارات الدينية. • تبين أن مجموعة الأحزاب المعروفة ليس لها تأثير ملموس في الشارع.. وأنها لم تستفد من التغيير الذي وقع بعد 11 فبراير ولم تزل غير محسوسة بين الناس.. إن أحزابا مثل الناصري والتجمع «مثلا» تتخذ طريقها إلي أفول مؤسف إن لم تدق فيها أجراس التنبيه. • سيكون الصراع السياسي التالي، في مرحلتيه البرلمانية والرئاسية، ما بين ثلاث قوي: التقليدية التي كان ينتمي أغلبها إلي الحزب الوطني + التيارات الدينية + قوي 25 يناير والشباب.. بالإضافة إلي ما يستجد من قوي معبرة عن الأقباط.. هذا تصنيف أعنيه علي الترتيب من حيث القوة والتأثير. استطرادا في النقطة الأخيرة، وبناء عليها، يمكن القول إن هناك اتفاقا ضمنيا ما بين ثلاث قوي مجتمعية علي الأقل «التقليدية/ الثورية/ الأقباط» في جانب.. في مواجهة التيارات الدينية علي تنوعها واختلافها، وإذا كان البعض قد ظن أن الذين انتموا إلي الحزب الوطني «الذي كان» قد اصطفوا في ذات الفريق مع التيارات الدينية بشأن الموافقة علي التعديلات الثورية.. وهو افتراض لا يمكن البناء عليه.. فإن التوقع هو أن يكون هناك «تحالف أهداف» لم يتبلور له تطبيق علي أرض الواقع بعد، بين القوي الثلاث المشار إليها في مواجهة الإخوان ومن يندرجون تحت عنوانهم. إن حملات التنكيت واسعة النطاق التي انطلقت في مصر منذ ليلة الأحد بعد إعلان نتيجة الاستفتاء تظهر إلي أي مدي هناك مقومات اجتماعية في الدولة تخشي علي مستقبلها المدني، وتتخوف من تأثير صعود التيارات الدينية علي ذلك، وبقدر ما تبدو مضحكة فإن تداولها علي نطاق واسع إنما يظهر أن هناك احساسا عميقا في المجتمع بأن مصر لا ينبغي أن تصبح أبدا «إيران».. أو حتي علي أقل تقدير «غزة».. وعلي هذا الأساس أتصور أنه يمكن أن ينبني تحالف سياسي مؤثر. لكن هذا التحالف يفتقد حتي اللحظة الآليات التي يمكن أن يقوم عليها، ذلك أن القوي التقليدية تمضي في طريقها علي نطاق محلي وبقوة الدفع الذاتية واعتمادا علي العلاقات الاجتماعية وتراث من التأثير السياسي وتواجد ملموس وتاريخي وهي إجمالا لديها نوع من التشرذم غير الجامع.. لا قيادة لها يمكن أن توجهها.. وتحركها فطرتها السياسية. كما أن قوي 25 يناير تعاني من تبعثر وعدم وضوح القيادة وأنها لم تصطف بعد في كيانات ملموسة.. فضلا عن أن الأقباط إما أنهم موزعون علي القوي التقليدية أو موجودون في لحاء 25 يناير أو يبحثون عن أوعية ليبرالية جديدة (سوف يكون خطأ أن تكون طائفية).. ما يعني شمولا أن تلك القوي الثلاث تعاني من عدم جهوزية متكاملة. الأخطر من هذا كله هو أن هناك فجوة جغرافية - بالمعني السياسي - تحتاج إلي أن تجد قيادات ورؤية تجسرها.. بعد أن تبين وفقا لتفاعلات 25 يناير ونتيجة استفتاء الدستور أن هناك تناقضا في التوجهات ما بين قطاعات مؤثرة في المجتمعات الحضرية وما بين عموم الريف.. يعود في الأساس إلي الاختلاف بين كل من القوي التقليدية وقوي 25 يناير.. أن تتخلي الأخيرة (قوي يناير) عن تعاليها الثوري و(المديني).. ما يمكن أن يؤدي إلي تحقيق نتائج مؤثرة في الصراع ما بين القوي المدنية والراغبة في الحفاظ علي شكل الدولة العصري والقوي المنتمية إلي التيارات الدينية. كما أن هذه الفجوة لها في ذات الوقت بعد جوهري آخر.. وانعكاس ملموس.. في سياق العلاقة ما بين النخبة وعموم الناس.. ذلك أن غالبية النخبة تنتمي الآن أو تصف في اتجاه الفعل الثوري.. بينما عموم الناس ينتمون إلي القوي التقليدية.. وإذا لم تنتبه النخبة إلي ذلك فإنها تخسر وتبقي معزولة بعيدا عن قطاعات عريضة في المجتمع.. علما بأنها يمكنها بمزيد من التدقيق والتواضع السياسي والانتباه إلي حقائق المجتمع أن تنضم إلي القطاعات العريضة التي تملك القدرة علي التصويت لكي توظف آليات الديمقراطية في استكمال تحقيق أهداف الفعل الثوري الذي انطلق في 25 يناير.. أو أن عليها لو لم تفعل أن تستسلم لخيار اكتساح التيارات الدينية.. الأقدر علي تنظيم نفسها.. وقتها لن تكون هذه النخبة موجودة أصلاً.. ما يعني أن ما نطرحه عليها هو صراع وجود. لقد وصف الشيخ محمد حسين يعقوب نتائج الاستفتاء بأنها (انتصار في غزوة الصناديق)، وهو أمر يحمل دلالات عميقة عن الطريقة التي تفكر فيها التيارات الدينية، في الأمر وفي التفاعل السياسي في المستقبل.. ومصير الدولة ذاته.. وأظن هذا من أحد أهم الحوافز التي تدفع إلي وجوب التفكير في تفعيل التحالف بين القوي الثلاث المشار إليها (التقليدية + 25 يناير + الأقباط). ومن المفهوم أن معضلة هذا التحالف الأساسية هي أن قوي 25 يناير تعتبر نفسها مناقضة للقوي التقليدية.. وأنها قامت بالفعل الثوري ضد مصالح تلك القوي المنتشرة في جميع أرجاء مصر.. لكنني ادعو قوي 25 يناير إلي أن تعيد تعريف الأهداف التي قامت من أجلها بالفعل الثوري.. فثورتها لم تكن ضد البلد. لقد ثارت من أجل تغيير النظام وقد تغير.. وثارت ضد غشم أجهزة الأمن.. وقد تغير ذلك.. وثارت ضد الفساد.. والمحاكمات جارية.. لكنها لم تثر ضد المجتمع وقوامه الأساسي.. وإذا كانت الثورة هي سعي مائج إلي التغيير.. فإن عليها أن تمد يدها إلي تلك القوي المتجذرة في بنية البلد.. تأخذ منها وتعطي لها.. تأخذ الطاقة الموجودة.. وتعطي القيم المتجددة.. وتلك معادلة عادلة. أعرف أن تلك دعوة إلي تحالف غير متوقع.. لكن السياسة لا تمضي في طريقها بدون أفق مفتوح وخيال واسع.. وأفكار غير مقيدة.. خصوصا إذا تلاقت المصالح.. إن من الممكن أن يجد (العمدة) ومن علي نسقه نفسه في ذات الطريق وبنفس الأهداف مع (اكسلانسات) القاهرة. ونكمل غداً [email protected] www.abkamal.net