إن الرسالة المسيحية بصورتها التي بدت عليها بعد وفاة المسيح ابن مريم عليه السلام واستمرارها بهذه الصورة إلي يومنا هذا يجعل منها رسالة لا تصلح للتصدي للحكم ولا لتسيير شئون الناس، ولا لتولي السلطة عليهم، ولا للعمل السياسي، لخلوها من التشريعات والأحكام التفصيلية الشاملة التي تنظم شئون الناس وتوجه حركتهم في الحياة، وهنا قد يتساءل البعض ويقول: إذا كان ذلك كذلك فكيف كانت الكنيسة في القرون الوسطي تحكم المجتمعات الأوروبية؟ وكيف كانت تقيم دولة دينية أو نظامًا سياسيا علي أساس ديني؟ للجواب عن هذا التساؤل المهم أقول: إن الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا لم تكن قط تحكم المجتمعات الأوروبية حكما دينيا حقيقيا، بل من الإجحاف وتزوير الحقائق والالتفاف علي التاريخ وصف سلطة الكنيسة في العصور الوسطي بأنها كانت سلطة دينية، وهي في واقع الحال لم تكن سلطة دينية علي الإطلاق، لأنها لو كانت سلطة دينية حقيقية لكانت التزمت بتطبيق الأحكام الدينية والتشريعات الدينية التي وردت في الإنجيل إن وجدت، إنما كانت السلطة الحقيقية هي سلطة رجال دين قائمة علي عقيدة الاتصال المباشر بين الله وبين رجال الدين كما كانوا يدعون ذلك، ويؤكد هذا ما ذكره البابا (نقولا الأول) في العصور الوسطي بقوله: (إن البابا ممثل الله علي ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم علي جميع المسيحيين حكاما كانوا أو محكومين) انتهي. (المصدر: قصة الحضارة، ول ديورانت، ج14، ص352). ومن هنا يتضح لنا أن الأمر برمته لم يكن له أية علاقة بأحكام دينية أو تشريعات دينية حقيقية علي الإطلاق، وأقصد بهذا أنه لم يكن هناك نص ديني مكتوب كالتوراة والقرآن به نصوص واضحة محددة لحكم الناس وتسيير شئون حياتهم والفصل في منازعاتهم، بل كان البابا وفق (الكاثوليكية) يستمد سلطته علي المسيحيين حكاما ومحكومين من الله مباشرة، من دون وجود نص ديني مكتوب ومتفق عليه أوحي الله به إلي البابا فدعا البابا الناس إليه وصدقوه وآمنوا به ابتداء ومن ثم يجب عليهم الانصياع لسلطته، بل كانت أحكامه وسلطته مستمدة من الله مباشرة دون وجود نص ديني محدد، له أول وله آخر، يقبله الناس أو يرفضونه، يؤمنون به أو لا يؤمنون، ولم يكن يومها للناس من آلية تمكنهم من التحقق من مصادقية البابا في حقيقة استمداد سلطانه من الله أم لا، وليت السلطة المستمدة من الله تتوقف علي بابا واحد بعينه، بل هي سلطة لكل شخص يشغل منصب البابوية.. مما يعني أن كل بابا يأتي يصدر أحكامه التي يستمدها من الله مباشرة وبطريقة فورية دون أخذ رأي الناس فيها مسبقا هل يؤمنون بها أم لا، هل يقبلونها أم لا؟ ونتيجة لفراغ الرسالة المسيحية من الأحكام والتشريعات عاثت الكنيسة الغربية في الأرض فسادا وأهلكت الحرث والنسل، واستبدت بالشعوب الغربية وأذاقتها الويلات تحت شعار أن البابا يستمد سلطانه علي الناس من الله، مما حدا بالشعوب الغربية إلي أن يثوروا علي الكنيسة وعلي رجالها، وقاموا بإخراجهم من ساحة السلطة والحكم والسياسة وقاموا باحتجازهم خلف جدران الكنائس إلي الأبد، ومن هنا يمكن القول إن انقلاب الشعوب الغربية أو ثورتهم علي الكنيسة لم يكن انقلابا أو ثورة علي أحكام دينية أو تشريعات دينية حقيقية موجودة في الإنجيل، بل لم يكن ثمة تشريعات دينية أو أحكام دينية حقيقية واضحة محددة يتلوها الناس في الإنجيل ويعلمون تفصيلاتها ومصادرها ويؤمنون بها أنها من عند الله، إنما كان هناك سلطة رجال دين يتحكمون في رقاب ومصائر الشعوب بدعوي أنهم يستمدون سلطانهم علي الناس من الله، دون وجود نصوص تشريعية إنجيلية أو أحكام إنجيلية واضحة محددة ومتفق عليها من الجميع. ومن هنا لم يكن أمام الشعوب الغربية من بد في ظل فراغ الرسالة المسيحية من الأحكام والتشريعات التفصيلية التي تسير شئون الحياة كما في اليهودية والإسلام إلا استدعاء فكرة الديمقراطية من تراثهم اليوناني القديم، ومن خلالها أقاموا أنظمة حكم ديمقراطية استطاعوا من خلالها وضع التشريعات والأحكام المناسبة لهم، ففكرة الديمقراطية استدعاها الغرب لفراغ الديانة المسيحية من الأحكام والتشريعات التي يمكن من خلالها إقامة نظام كامل شامل يسوس الناس ويفصل في منازعاتهم، لذلك وجدت فكرة الديمقراطية الملعب السياسي والتشريعي الغربي أمامها فارغا فنجحت في أن تصبح نظاما سياسيا لا منافس له حتي الآن، ليس لأفضلية الديمقراطية وروعتها بل لسد الفراغ التشريعي والحكمي في الرسالة المسيحية. (البقية تأتي)