هذه أيام عصيبة لا تحتمل التلاعب بالألفاظ أو حتي العتاب بما في ذلك البكاء علي اللبن المسكوب. ثورة التحرير كانت متوقعة منذ أكثر من عشرين عاماً ولا توجد معذرة واحدة فيما يخص التعليم العالي الذي انخفض إلي درجة أقل من متوسط والتعليم المدرسي المأسوي والبحث العلمي الذي لا وجود فعلياً له رغم تشدق من استولي بطرق القرصنة الإعلامية علي مشروع تقنية النانو الذي طرحته منذ أكثر من اثني عشر عاماً بمؤتمرات السياحة العلمية وافتتاح من يسمون بالمسئولين السياسيين لهذه المؤتمرات التمويهية. وعلي الرغم من احترامي بل حتي انبهاري بشباب التحرير إلا أن صورة للرسام العالمي «مارك شجال» تظهر أمام عيوني الداخلية وخيال ذكريات الصبي حين كنت أفكر جدياً أن أكون فناناً تشكيلياً وأهرب كلما سمحت الظروف من دراسة الهندسة في هنوفر بألمانيا إلي دراسة الفن والحب والحياة في باريس عاصمة النور. مارك شجال ولد في روسيا القيصرية وعاصر ثورة البلشفيك بكل مظاهرها السياسية والفنية وحروبها الدموية. تعرفت علي أعمال «شجال» أول ما تعرفت عن طريق لوحاته المشهورة عن الحب والعاشقين في الفترة التي عاش فيها مثلي في باريس. لوحات شجال هذه تتميز بالسذاجة الممزوجة بالرقة والألوان الشرقية الزاهية التي أقتبسها من الفلكلور الشعبي الروسي وكذلك اليهودي حيث إن مارك شجال كان يهودي الأصل ورحل فيما بعد إلي إسرائيل حيث زينت إحدي دور العبادة هناك بلوحات زجاجية مشهورة كنت أود أن أزورها ولكن بعد أن تعطي إسرائيل حق الحياة للشعب الفلسطيني الراسخ تحت نيران احتلالها. برع شجال في رسم عشاق يطيرون في السماء وذلك فوق كباري باريس المشهورة وهذه السلسلة من اللوحات الزيتية التي يقدر ثمن كل منها الآن بما لا يقل عن مئات الملايين من الدولارات رغم أنه باعها أساساً بحفنة من الدولارات لشراء الطعام عندما كان فناناً مغموراً لا يعبأ به أحد وقبل وصول قنبلة الشهرة والمال التي لا يعلم أي فنان حقيقي أين تصل ولا لماذا وصلت. لوحات شجال عن عشاق باريس ليست هي اللوحات التي تجول في خيالي عندما أري ميدان التحرير هذه الأيام وإنما لوحة معينة رأيتها في أحد المتاحف وربما كانت في باريس لا أذكر.. واللوحة أسماها شجال «الثورة». في هذه اللوحة نري بوضوح الكتل البشرية تحمل الأعلام الحمراء المميزة للثورة الشيوعية يتوسطها الرموز السوفيتية مثل المطرقة والمنجل «أي الصناعة والزراعة» هناك أيضاً العديد من الخطباء والشعارات والحماس وقبضات اليد مرفوعة في السماء ولكن بالإضافة إلي ذلك هناك الراقصات والراقصون والبهلوانات ومروجو الدببة والقرود والحابل والنابل. كنت أظن أن شجال اليهودي كان يريد مدح وتخليد الثورة الروسية بلوحته حيث إن روسيا القيصرية وعلي عكس ما قد يتصوره كثير من الناس أقول كانت روسيا القيصرية تقمع وتنكل بالشعب اليهودي في روسيا أكثر مما حدث بعد ذلك بسنين تحت حكم النازية الألمانية. الحق اللوحة تؤيد الثورة الشيوعية بشكل أو آخر ولكن في نفس الوقت ذكاء قلب الفنان العبقري مارك شجال كان يري أن هناك «سيركاً» يحيط بالثورة من الخارج وهناك «سيرك» في قلب الثورة في الداخل. كان شجال بشكل ما يريد أن يحذر من خلط الثورة والسيرك وهو نفس الشيء الذي أخاف منه أشد الخوف الآن.. أخاف أن تنطلق وحوش السيرك من أقفاصها وتختلط النمور والفيلة مع الأسود والأخطر مع الثعالب والذئاب مع خطباء الثورة. أخاف من رجل إفريقي الأصل وهو رجل فاضل في أساسه ولكنه أضعف رجل حكم أكبر دولة علي وجه الأرض.. أخاف من هذا الرجل الضعيف الذي لم يأت بأي إنجاز في الشرق الأوسط ولا في عملية السلام التي هي الآن جنازة السلام.. أخاف أن يحاول هذا الرجل وأعوانه في أوروبا أن يخفي فشله الذريع بتحويل الشرق الأوسط إلي «السيرك» الأوسط.. أرجو من الله أن أكون مخطئاً