عامان مرا على أحد أهم اللحظات التاريخية التى سيذكرها ويتوقف عندها الباحثون طويلا عند الحديث عن تاريخ مصر المعاصر، إنها لحظة «تنحى الرئيس المخلوع حسنى مبارك»، الذى تم إعلانه فى خطاب لم يستغرق سوى 34 ثانية أعلن فيه الراحل اللواء عمر سليمان تخلى مبارك عن السلطة وتكليف المجلس العسكرى بإدارة شئون البلاد، هذا الخطاب الذى جاء إعلاناً لسقوط نظام استمر ثلاثين عاما وكان يهدف لتجديد دمائه من خلال مشروع التوريث. كيف تم التخطيط لهذه اللحظة أو هذا القرار أو التحضير لها وكواليسها، هذا ما نستحضره من خلال مجموعة من الكتب التى أصدرها بعض المسئولين الذين عاصروا بل وكانوا فاعلين وموجهين نحو هذه اللحظة بحكم مواقعهم كرجال بالدولة أو بحكم قربهم من مبارك، كذلك الكتب التى أصدرها بعض الكتاب الذين عاشوا الثورة وتلك اللحظة وكانوا ينتظرونها. «الأيام الأخيرة لنظام مبارك ... 18 يومًا» كان أول الكتب «الأيام الأخيرة لنظام مبارك ... 18 يومًا» أصدرها الإعلامى عبداللطيف المناوى رئيس قناة النيل للأخبار آنذاك عن الدار المصرية اللبنانية فى يناير 2012 الذى يحاول فيه رصد هذه اللحظة والوصول إليها عبر عدد من المحاولات التى وصفها بمثابة الرقص حول النيران، حيث لم يكن أحد يجرؤ على مناقشة مبارك فى التنحى تلبية لمطالب الشعب بشكل مباشر، فى العاشر من فبراير يسجل المناوى أنه قد تصادف وجوده بمكتب أنس الفقى الذى كان يجرى حديثا هاتفيا مع مبارك يحاول رفع معنوياته فى الوقت الذى يخبره مبارك عن نيته فى عقد لقاء طويل بعد انتهاء تلك الفترة يحكى فيها للناس كل ما فعله لمصر على مدار 30 عاما، هذه المكالمة أكدت للمناوى أن مصر فى حالة انهيار لا أحد يعرف منتهاها، فى نفس الوقت أدرك أن الرئيس فى عالم آخر لأنه لم يكن يفكر فيما كان يجب أن يفعله فى الساعات القادمة بناء على عدم تفهمه لحقيقة الأزمة! يتعرض المناوى لمحاولاته لفهم حقيقة الأمور وما سيحدث فى الساعة القادمة، الأمر الذى دعاه لعقد اجتماع سرى ثلاثى مع أحد أصدقائه من الرتب المهمة فى المخابرات العامة وضابط آخر، ليتوصلا إلى أهمية بل ووجوب توصيل الوضع بشكل واضح وصريح لمبارك، بدلا من اسلوب التلميح الذى يتبعونه فى حواراتهم معه، ليخلص المناوى فى النهاية إلى فكرة خروج مبارك إلى الشعب وإلقاء خطاب يكسب به تعاطف الجماهير ويعلن عن تفويض صلاحياته لعمر سليمان، إنما المشكلة التى واجهتهم هى من سيستطيع إخبار مبارك بذلك، لتكون مسئولية أنس الفقى وزير الإعلام الأسبق والابن الثالث لمبارك، بالفعل توجه سريعا نحو مكتب الفقى وأقنعه بذلك، وبالفعل أملاه الخطاب الذى يجب أن يقوله فى الخطاب، بالفعل توجه سريعا الفقى نحو الرئيس، لكن كواليس اللقاء مبهمة إنما النتيجة كانت خلود مبارك إلى النوم، وبعدها أذيع خطابه الثالث والأخير الشهير الذى أثار حفيظة وغضب الشارع الذى وصفه المناوى بأنه كان كارثيا، وأعقبه إذاعة البيان الأول للمجلس العسكرى ومشهد انعقاده الدائم فى غياب مبارك القائد الأعلى للقوات المسلحة بمثابة ضغط على مبارك وكذلك رسالة واضحة للشارع، لتتطور الأحداث ويذاع خطاب تخليه عن السلطة على لسان نائبه اللواء عمر سليمان، الذى أتى به اللواء إسماعيل عتمان المتحدث الرسمى للجيش مسجلا على شريط صغير لم تتم إذاعته إلا بعد أن تم تأمين سفر مبارك وأسرته كاملة إلى شرم الشيخ. أهم ما يصل عبر هذه اللحظة التى لم يستطع الكتاب الإفصاح عن حقيقة تشكيلها وإقناع مبارك بوجوب تنحيه عن السلطة ولا أى كتاب آخر استطاع توضيح كواليس قرار التنحي، يقول المناوى إن الثقافة المصرية التى تعتمد على التسلسل العمرى والأقدمية كانت جزءا من المشكلة، أيضا فى أشد الأزمات القومية كان الجميع يرقص حول النيران ولم يكن لديهم القدرة للتحلى بالأمانة مع بعضهم البعض والحرص على تذكير الجميع أنه يجب ألا نزعج الرئيس أو نصيبه بالتوتر! «شهادتى ... السياسة الخارجية المصرية 2004 – 2011» أهمية هذا الكتاب الذى سجله ووثقه وزير خارجية مصر الأسبق أحمد أبوالغيط الصادر عن دار نهضة مصر هى أهم ملفات السياسة الخارجية المصرية فى أصعب فتراتها، إنما كان من ضمن فصوله معاصرة أبوالغيط للحظة التنحى التى عاشها بل وعلم بها من قبلها بيوم واحد، فى صبيحة الجمعة 11 فبراير 2011 تحدث ابوالغيط مع اللواء عمر سليمان والفريق أحمد شفيق رئيس الوزراء وقتها ناصحا أن ينظرا فى الدعوة لاجتماع لمجموعة الأمن القومى لمناقشة تطورات الموقف ولإعطاء رسالة للمجتمع بأن هناك سلطة حكومية فى مصر رغم بيان الرئيس الثالث، فطلب منه الحضور للقصر الجمهورى فى تمام الواحدة ظهرا، الذى عرف من مشهد دخوله للقصر بصعوبة أنه بالفعل قد تغير الوضع كلية، وحضر أبوالغيط إبلاغ سليمان للمشير هاتفيا بتكليفه بإدارة شئون البلاد الذى أعرب عن تململه من إقحام الجيش فى الحكم، لكن هذا ما حدث بالفعل وسجل عمر سليمان خطاب التنحي، ليخرج أبوالغيط بصحبة سليمان وشفيق عبر بوابة معسكر الحرس الجمهورى فى السادسة والنصف مساء ليجد آلاف الشباب والشابات يحتفلون باللحظة وكان يفكر بقلق فى المجهول القادم ! «مائة خطوة من الثورة ... يوميات من ميدان التحرير» هو أول كتاب أصدره أحد الثوار المشاركين بالميدان وهو الكاتب أحمد زغلول الشيطى الصادر عن دار ميريت ودار الآداب اللبنانية، وهو بمثابة يومياته عن الثورة التى عايشها بكل أحداثه نظرا لأنه يعيش بشارع قصر النيل فى العمارة المطلة على الميدان والتى تبعد مائة خطوة عنه، يصف الشيطى لحظة التنحى بأنها كانت متوقعة بعد انعقاد المجلس العسكرى فى غياب مبارك وإذاعته ايضا بيانا أول...مما يعنى أن هناك سلسلة من البيانات وكذلك يشير إلى انقلاب عسكرى واضح تم فى 10 فبراير 2011 وأعقبه بعد ذلك إذاعة تصريح عن أمين عام الحزب الوطنى د.حسام بدراوى بأن الخيار الأفضل لمبارك هو التنحى وتوقعه بمغادرة مبارك اليوم، ثم خطاب مبارك مؤجج الغضب لينزل الجميع أكثر للميدان وتوعدهم بالزحف إلى القصر الرئاسى وعدم المغادرة إلا عند رحيل مبارك، لتأتى اللحظة التى انتظرتها الميادين فى مساء الجمعة 11 فبراير 2011 التى حبس فيها الجماهير أنفاسهم حتى كلمة «تخليه» ليبدأوا جميعا فى الصياح مبتهجين ومحتفلين فى الميادين بسقوط النظام. «الثورة الآن ... يوميات من ميدان التحرير» بالرغم من وهنه الكامل فى ذلك اليوم من شدة الإرهاق بالميدان والتظاهر صرخ الكاتب سعد القرش «إلى الجحيم» لحظة سماعه تنحى مبارك، وسجل فى كتابه الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة فى سلسلة إبداعات الثورة، أنه لحظتها لم يكن صافى الذهن ليقرأ التناقض بين «تخلي» مبارك عن السلطة وبين منحه لنفسه سلطة «التكليف» للمجلس العسكرى بإدارة شئون البلاد، لكنه نزل سريعا للميدان ليقابل أصدقاءه عند شركة بنها للإلكترونيات مثل عزازى على عزازى ومحمد سعيد وهو يبكى ويقول «مصر حرة ... وحسنى برة»، وبدأ أصدقاؤه الأوروبيون يتصلون به قلقين من النيران التى تشتعل فى جنبات الميدان ليطمئنهم بأنها ألعاب نارية احتفالا بإسقاط مبارك!