استدعاه البوعزيزيون الذين قتلوا خلال الانسحاب من المعركة.. شهداء؟ الحديث عن البوعزيزيين الذين ينتحرون حرقا، هل هم شهداء أم كفار، هل هم أبطال أم أشخاص قنطوا من رحمة الله تعالي؟ هذا الاختلاف أعادني إلي ما يقرب من أربعين سنة للوراء، إلي أيام النكسة 1967، كنا أيامها مازلنا صغارا في المرحلة الابتدائية، وكانت أغلب البيوت اتشحت بالسواد فقد راح أحد أبنائهم في النكسة، بالوفاة أو بالوقوع في الأسر في أيدي الاحتلال الإسرائيلي. وأذكر أيامها أنه قد سري في الشارع سؤال شغل الناس جميعا: هل الأسير إذا انتحر لعدم قدرته علي تحمل التعذيب يعد شهيدا أم كافرا؟، هل الأسير الذي ينتحر لكي لا يفشي أسرار بلاده للعدو الإسرائيلي يعد شهيدا؟، وأيامها كنا في المرحلة الابتدائية. وكانت الإجابات إما مرتكنة علي الموروث: آه كافر، أو علي العاطفة: لا فهو شهيد، وأذكر أننا كنا نسمع رجال القرية وشيوخها يتحدثون بجدية في هذه المسألة الفقهية، فقد كانت الحكومة أيامها تحاول تبرير الهزيمة، وكان فقهاء السلطة أيامها يمنحون صفة الشهادة للجميع لكي تبرد قلوب المصريين، وأذكر أيضا أن سؤالا آخر طرح وتم تداوله في الشارع، وكانت الحوارات تدور حوله همسا وربما سرا، وهو: هل الجندي الذي يقتل وهو منسحب من ميدان المعركة يعد شهيدا؟. هل المنسحب والفار من المعركة يصير شهيدا عندما يقتله العدو؟، وهذا السؤال تسبب في حالة من الجدال طويلة، وعلي ما أتذكر أن الإجابات كانت في معظمها إيماءات دهشة أو إيماءات سلبية، الشهادة للمقاتل الذي يدافع عن سبيل الله، الذي يدافع عن وطنه أو دينه أو عرضه، وجنودنا الذين قتلوا علي رمال سيناء كانت ظهورهم للعدو، وكانوا في طريقهم إلي الوطن. ولم يكن أحدهم في حالة مواجهة، كانوا يفرون من العدو، الحقيقة لا أتذكر التفاصيل جيدا، فقد كنت في العاشرة من عمري، وربما أقل من ذلك، حيث كنا نعيش أيامها في قرية قحافة، وقد انتقلنا إلي مدينة طنطا عندما التحقت بالصف الرابع الابتدائي، وكل ما أتذكره من هذه الفترة أنني طرحت السؤال علي مدرس التربية الدينية: أستاذ.. هو اللي قتلوهم الإسرائيليين وهم بينسحبوا يبقوا شهداء؟ بانفعال شديد: آه يا روح أمك. وأتذكر جيدا انفعاله الشديد، وتأكيده أنهم شهداء، وبرر استشهادهم هذا بكونهم كانوا علي الجبهة في حالة استعداد للعدو، وساوي بينهم وبين من يقتلهم العدو وهم في عقر دارهم، الذين ماتوا تحت قصف العدوان الغاشم في مدن القناة، وأتذكر أيضا انه قد نهرني بعنف وقال: إن هذه الأسئلة لا يطرحها سوي أعداء الوطن، إن العدو الصهيوني يا أولاد له عملاء يندسون بيننا، ويروجون الشائعات التي تعمل علي إحباط الشعب، وأقسم بصوت عال: هنحارب، هنحارب، وهنرمي إسرائيل في البحر، ونصحني أنا وزملائي ألا نردد هذه الكلمات مرة أخري، وبالطبع لم نأخذ بنصيحة الأستاذ، وأذكر اسمه جيدا:" الجبالي"، فقد كان يجلس في الحصة ويبرم شاربه، وينغزنا بالعصا:"قل هو الله أحد . قل يا ابن الكلب، قريتنا لم تكن تنام علي أسرار، وكان رجالها وشبابها يجتمعون مساء أمام الجرن، الآباء يجلسون علي مصطبة عم عاشور البقال، والشباب أسفل عمود النور، ونحن الأطفال علي بعد مترين من الشباب، وكنا خلال لعبنا عنكب وغيرها من الألعاب، كنا نتصنت علي الشباب والآباء. وكنا نردد بعض ما يقولونه، وأذكر أن سؤال المنسحبين هذا كان يشغل الآباء، وكانوا يناقشونه بجدية مع شيخ الجامع أو مع شيوخ القرية الذين يثقون في علمهم بالدين، ولا أنسي أبدا أن الأزهريين، وكان عمي من بينهم، يؤكدون أن الشرع أوجب قتل الجندي الهارب من المعركة، لأنه حسب ما أتذكره من حديثهم كان خائنا للوطن، فالجندي الذي يفر من المعركة يضعف موقف زملائه ويهدد مصيرهم وحياتهم، كما أنه يعطي فرصة للعدو لاحتلال أرضه ونهش عرضه، وكان البعض الآخر يرد علي هذه الآراء بأن أولادنا لم يفروا جبنا من المعركة، بل صدرت لهم الأوامر بذلك. ومن هنا فهم شهداء سواء في حالة إلقاء حتفهم خلال الانسحاب أو عند انتحارهم خوفا من التعذيب بوقوعهم في الأسر، وعندما التحقت بالجامعة فتشت في كتب السنة النبوية، واكتشفت أن عدد الحالات التي أخذت درجة الشهادة حوالي عشرين حالة، جاءت جميعها في ستة أحاديث، ذكرت في البخاري ومسلم والترمذي وأحمد، منها: المطعون، والغرق، وصاحب ذات الجنب، والشهيد في سبيل الله، والمبطون، وصاحب الحريق. والذي يموت تحت الهدم، والمرأة تموت بجمع شهيدة، من قتل دون ماله، ومن قتل دون دينه، ومن قتل دون دمه ، ومن قتل دون أهله، من قتل دون مظلمته، والموت في غربة شهادة.. وحاولت قدر الإمكان ان أعثر علي حالة الذين قتلوا أثناء الانسحاب من المعركة.. هل كانوا شهداء؟، ويبدو والله أعلم أن هذا السؤال أضيف إليه سؤال آخر: هل البوعزيزيون شهداء؟