شارع القصر العيني تقاطع شارع الشيخ ريحان: الساعة الواحدة والنصف ليلاً عشرات من العمال التابعين لإحدي الشركات نائمون بالأغطية علي رصيف مجاور لمبني المجمع العلمي المصري علي بعد خطوات من مجلسي الشعب والشوري.. بعض المتراصين متيقظون يدخنون في الفراش المترب.. حولهم بضعة عساكر شرطة في وردية صحيان لمتابعة الاعتصام أمنياً بهدوء. قبل هذا بأربع أو خمس ساعات كنت أجلس علي مقهي "فيينا" حيث اعتدت منذ زمن بعيد، مجموعة من نفس العمال كانوا يدخنون الشيشة ويلعبون بأوراق الدومينو الخزفية.. وبينهم من يقارع آخر علي الطريقة المصرية: لما تبقي تعرف تلعب ابقي تعالي اقعد أمامي. جاءه تليفون أخرج الموبايل من جيب صديري فلاحي تحت الجلباب الصوف بعد أن عبر بذراعه إلي الجيب متخطياً "شال" ثقيلاً يشبه سجادة.. المتصل شخص لا أعرفه بالطبع خاطبه المتلقي باسم الحاج صابر.. وهكذا دار الحوار الذي سمعته بدون تعمد، فقد كان صخب مكالمته عالياً: أهلاً يا عم الحاج صابر.. شغل؟.. بكرة؟. لا.. لن ينفع.. نحن في مصر "يقصد القاهرة".. عاملين اعتصام.. آه.. كلنا.. قلنا نيجي مصر ناخد حقوقنا.. شوية كده يا عم الحاج.. آخر ما زهقنا جبنا العيال تنام معانا في الشارع "يضحك".. آه.. عاملين قلق يا عم الحاج.. طيب.. حاضر.. نخلص وأنزل معاك الشغل.. لكن لما أنزل المرة الجاية هاكون صنايعي مش عامل.. أيوه صنايعي يا عم الحاج.. لكن إذا جيت لك مكسور ولا حاجة "ضاحكاً" ماتكملش عليا.. ماشي.. بالسلامة يا عم الحاج. انتهت المكالمة.. أعاد الموبايل إلي جيب الصديري.. وعاد مجدداً لمواصلة لعب الدومينو.. لحظتها اعترف من هو أمامه بالهزيمة.. وقام ليبدل مع آخر.. بينما كانوا يتسلون ببعض حبات اللب. وبالطبع ليس لدي اعتراض علي الاعتصام.. هذا حق قانوني.. مادام التزم بقواعد القانون.. وليس من بين تلك القواعد أن يكون الاعتصام في أي مكان.. بل أنه يكون في موقع العمل.. ووفقاً لضوابط محددة.. ولكن المودة التي تعمل الحكومة علي زيادتها بهذا التراخي الودود في التعامل مع تلك الأحداث.. هي أن ينتقل العمال إلي حيث يوجد مربع السلطة.. وبالطبع لكي تكون الكاميرات التليفزيونية قريبة من مشهدهم. الخطأ الجوهري هو أن الجهات المختصة عمالياً لم تحتسب للتصعيد.. ولم تعالج المشكلة في مقرها البعيد.. فجاءت إلي القاهرة.. والمشكلة الثانية أنه لابد ألا يكون موقع مقر السلطات التشريعية والتنفيذية في وسط المدينة "هايد بارك".. يأتي إليه العمال من مصنع تلو آخر لكي "يصنعوا القلق". طبعاً رأيت من قبل علي نفس المقهي عدداً من عمال طنطا للكتان وهم يتابعون صورهم في البرامج علي شاشة تليفزيون المقهي.. ويبدلون المحطات تلو بعضها. وها هو فريق آخر يتناوب أفراده الاعتصام بينما يقضي بعضهم الوقت علي المقهي.. ولكن المدهش أن من هاتف الحاج صابر أمامي لديه "شغل".. ورغم أنه مقيد علي العاملين في مصنع المعتصمين إلا أنه يعمل خارجه.. وها هو بدوره يرفض العمل المعروض عليه إلي أن ينهي اعتصامه بشأن العمل الحكومي. هناك خلل في العلاقات.. وفي ثقافة العمل.. وليس هذا هو العامل الوحيد الذي يعمل بطريقة ما لدي جهة إنتاج حكومية وطالته إجراءات التصحيح.. بينما لديه عشرات من فرص الأعمال الأخري.. خبرته التي تجمعت في مصانع الحكومة أصبحت مطلوبة في السوق.. لكنه يريد أن ينال ما يعتبر أنه حقه.. ولو وصل الأمر إلي حد صناعة القلق في القاهرة. هذه نتائج ميراث قديم ومتراكم.. لكنه كذلك نتيجة لعدم الحسم في التعامل وإنهاء المتعلقات في مهدها وموطنها.
الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net البريد الإليكترونى : [email protected]