مشيت في الشارع وقتها بخطى متثاقلة يعتريني اليأس والكثير من اللا مبالاة، كان قد مر على نتائج التوجيهي شهرا وكان بعضا من أصدقائي الذين اجتازوا معي هذا الهراء المخيف، ينتظرون الوقت اللازم كي ينتظموا بالدوام في كلياتهم وجمعاتهم، إلا أنا. فرسم الجامعة أو الكلية كان يعتبر بالنسبة لعائلتي شيئا فوق الطبيعة، أو ضربا من الجنون، وبينما يتآكلني اليأس حتى أن رائحة عرقي باتت أشد قرفا؛ وإذ بالخبر ينزل على مسمعي كطرفة مقيتة مفرطة في الخيال، "لقد تحصلت على قبول مبدئي في أحد جامعات ليبيا لدراسة الإقتصاد ويتوجب عليك الذهاب هناك لاستكمال إجراءات القبول، إسمع ماذا أيضا، الرسوم السنوية عبارة عن ما يعادل المئة دينارا أردنيا" كان هذا الفرط في الخيال يخرج من فيه أختى الأصغر مني بثلاث سنوات، كانت قد سمعته من العم أبو فريد من كوادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهو يزف الخبر لأمي بعد أن طلبت منه أن يبحث لي عن بعثة ما، أو أي شىء مماثل، رغم أننا غير منظمين ولا أحد في عائلتي كلها كذلك!. يااااااه كانت سنون خمسة حافلة بالأحداث هناك في جامعة الإنتفاضة التي تحول اسمها في سنتي الثانية هناك عام 1996 إلى جامعة ناصر الأممية، لم يمض وقتا طويلا على حربي الخليج الأولى والثانية ومأساة الفلسطينيين هناك في ليبيا ومسألة طردهم إلى الحدود الليبية المصرية لأربعة أشهر، كذلك أحداث تنافس الفصائل الفلسطينية هناك في الجامعة على استقطاب الطلبة الفلسطينيون الذين قدموا للدراسة في الجامعة من غزة والضفة ومصر وبعض دول الخليج، لم يكن هناك ثمة تنافس على الطلبة الفلسطينيين القادمين من الأردن مثلي أنا، كون الفصائل قاطبة كانت تعتبرنا مخابرات أردنية، كنا نحن الفلسطينيونالأردنيون خارج هذه المعمعة تماما، حتى النقاش الوطني بين منتسبي الفصائل المختلفة لم يكن محببا الخوض فيه بوجود أمثالنا في الجلسة، ماذا..أنا مخابرات؟!. رجعت إلى وطني الأردن ثلاث مرات خلال فترة دراستي الجامعية، كان السفر برا كون ليبيا كانت ترزح تحت الحصار، فلا وجود للطيران الدولي عدا ذاك المحلي، في المرة الثالثة لعودتي للوطن وهي الأخيرة بعد التخرج، استضافني مكتب المخابرات الأردني هناك على حدود العقبة وأنا قادم من النويبع المصرية، كان مسؤول المكتب دمث ذو أخلاق عالية حازم وقاسي وكأنه تدرب على الجمع بين هذا كله في ذات الوقت، بعد تقديم القهوة لي، بدأ معي الكلام بسؤالي أنه مؤكدا أنني حريص على مصلحة الوطن وأمنه؟ لأتفاجأ في النهاية بأنه يطلب مني كتابة عشرون إسما لعشرون طالبا فلسطينيا من طلاب غزة والضفة وعن أهم النشاطات التي كانوا يقومون بها هناك في ليبيا، مع تهديدي بتحمل المسؤولية كاملة فيما لو تعمدت كتابة أسماء وهمية، سيدي هل أن أمن وطني مهددا من أمثال هؤلاء المعدمين الرازحين تحت الإحتلال الصهيوني الوحشي؟ دون كثرة حديث أنت لا تعلم أكثر منا عن مصلحة الوطن وعن حماية أمنه، أجابني السيد دمث الأخلاق، والذي بقي دمثا حتى غادرت المكتب في أصعب تجربة مررت بها يوما داخل الوطن، بعد أن عانيت طويلا جراء لهفة العودة إليه مجددا. لطالما ابتسمت وأنا اتذكر منتسبي الفاصائل المختلفة، كل الفصائل الفلسطينية، وهم يأخذون الحذر من أمثالي هناك في ليبيا، كيف علموا بما سيحدث لي؟ لكن، هل وضعوا نسبة مئوية وهم يتناقشون حول مسألة خضوعي لهذا الإستجواب الدمث عن ثباتي ومراوغتي؟ لكم أحببت أن أعلم ذلك، كنت متأكدا بأن نقاشا مماثلا دار يوما بين من هم أصدقائي ويؤمنون بي، من هؤلاء المنتسبين، وبين من أفرط في أخذ الحيطة والحذر مني، منهم أيضا. السؤال، كم كنت سأعود على وطني بالفائدة فيما لوكنت من كوادر المخابرات فعلا؟ سؤال ختم به صاحب القصة وكان رافعا كفيه إلى أعلى كون الوطن ما زال يتمتع بنعمة الأمن والأمان، مع ذلك. هذا المقال لا يعبر الا عن رأي كاتبه