على النقيض من بعض الأشخاص "المتفرنجة" نكتشف أن التعلق باللغة الأصلية سر من أسرار نهضة الدول المتقدمة، ويعتقد قادتها أن لغتهم الأصلية شأنًا سياديًا، بل يصل الاعتقاد لدى بعض الدول المتحضرة أن لغتها أحد مقدساتها، التى لا يمكن المساس بها، ولا يجرؤ مواطن يأكل من خيراتها تحقير لغة دولته، أو تحويلها إلى لوغاريتمات وأرقام يتحاور بها عبر وسائل التواصل الاجتماعى. ولنا فى كوريا الجنوبية أسوة حسنة، فقد انفردت فى مطلع القرن العشرين ببناء نظام حضارى قوى، وكان فى مقدمة مقوماته وتفوقه اللغة والثقافة، وجعلت سول لغتها "الهانجول" هدفا محوريا فى الحفاظ على هويتها وفى دعم روح الانتماء فى وجدان أبنائها، وقاومت محاولات الاستعمار اليابانى فى طمس هويتها اللغوية والثقافية. ولم يجرؤ كورى فى استبدال لغته الأم ب "فرانكوكورى"، أو يخطر على باله التمرد عليها، أو يتنكر لها ويتقن اللغة الإنجليزية، برغم أن اللغة الكورية لغة محدودة التداول، وتنحصر داخل نطاق جغرافى ضيق، ولكن اعتزاز المواطن الكورى بلغته تشكل الركيزة الأولى فى تحول دولته من دولة فقيرة أنهكتها الحروب إلى قوة اقتصادية، ومن خلالها تغلبت كذلك على الانقسامات والتوترات، وصارت حاليًا فى طليعة الدول المتقدمة، وتحتل المرتبة ال 14 فى العالم من حيث الاقتصاديات الكبرى. ولا تتعجب أن اللغة الكورية ذات محدودية الانتشار تمثل لغة التدريس الأولى فى المراحل التعليمية المختلفة، والتعليم كان حجر الزاوية فى نهضة كوريا الجنوبية، ولم يعتقد كورى يومًا أن لغته الأصلية هى سبب تخلفها فى الماضى، إنما لديه يقين أن لغته الوطنية أساس أى مشروع تنموى ناجح. واستطاعت الحكومات الكورية منذ استقلالها عن اليابان كتابة جميع مراجعها باللغة الكورية "الهانجول"، وشملت المجالات الثقافية والعلمية من سياسية وجغرافية ورياضة وغيرها، وتشتهر البلاد بإجراء المسابقات الثقافية، وتشهد منافسة بين الشعراء والأدباء والشباب، ويستعرض فيها الجميع قصائدهم الشعرية وأعمالهم الأدبية، كأنهم يعيدون إلى الأذهان النهضة الحضارية العربية والإسلامية فى أروقة قصر هارون الرشيدي وفى بيت الحكمة. ومن بواعث الفخر أن تكون اللغة العربية اللغة الرسمية الثانية فى سول فى المناهج الدراسية بعد اللغة الكورية، ونالت اللغة العربية مكانة كبيرة فى نفوس المواطن الكورى، واختارت وزارة التربية والتعليم الكورية لغة الضاد مادة أساسية فى الجامعات.