ما كان يومًا سلوكًا فرديًا طارئًا، أصبح اليوم – للأسف – نمطًا من أنماط إثبات الذات، والرجولة المفرطة، والبطولة النبيلة، والقدرة على التكيف ومعارك الواقع وقهره فى أحياء فقد فيها القانون هيبته، وفقدت العدالة الاجتماعية معناها الحقيقى، وصار المثل الدائر "البيت اللى مفيهوش صايع حقه ضايع"، يعكس القناعة القيمية لتلك الخرابات الإنسانية التى لا تخاف ولا تختشى. فى الأزقة والحارات المنسية، البلطجي لم يعد مجرد مجرم عابر، أو شخصًا مرفوضًا اجتماعيًا ومرذول ومقاطع.. لا، بل على العكس صار البلطجى شخصية اجتماعية تُستدعى أحيانًا لتسوية الخلافات، أو لطلب الحماية، أو استلاب حقوق الغير بالقوة، وعرفنا فيما سبق أن البلطجى كان طرفًا أصيلاً مشاركًا فى صراعات سياسية! البلطجة ليست نتاج ثورة 25 يناير 2011، الحق أن الظاهرة كانت قد تفشت قبلها بسنوات، نتاج الفراغ الذي خلفته أنظمة الحكم، والسياسات والظروف الاقتصادية الضاغطة على الطبقات الفقيرة والدنيا فى المجتمع. وفى مرحلة ما بعد ثورة يناير ومع تراجع القبضة الأمنية، وتفشي البطالة، والزيادة الكبيرة فى نسب تعاطي المخدرات (بدأت رحلة بعض الشباب فى تعاطى المخدرات من ميادين الثورة التى كان يوزع فيها الترامادول لرفع القدرة الجسمانية للمشاركين، وبعدها داوم البعض على تعاطى المخدرات التخليقية وأنا أعرف نماذج بعينها حدث معهم هذا). ويضاف إلى ما سبق، للأسف، تآكل منظومة القيم فى بعض البيئات، وغياب نماذج القدوة، ومع "تلميع" البلطجي فى الدراما والإعلام، كان طبيعيًا أن نصحو على واقع يفرض فيه "فتوة الشارع" كلمته، لا القانون. والبلطجة لم تعد مقتصرة على الطبقات المهمشة، أو البيئات الفقيرة كما يظن البعض، لكنها حاضرة فى كل الشوارع، وعلى الطرق، وفى الجامعات، وأحيانًا فى مكاتب بعض المسئولين، حين يُمارس القهر باسم السلطة. وهنا لابد للمجتمع كله بكل مؤسساته وأفراده من وقفة حقيقية: وعلينا أن نسأل أنفسنا هل نكتفى فى مكافحة الظاهرة بالحلول الأمنية؟! هل يكفى أن نقبض على البلطجى ليحبس أيامًا أو شهورًا ويفرج عنه ليعود الأمن يقبض عليه من جديد ليحبس أيامًا أو شهورًا ويصير مسجلاً (سوابق) فيخشاه الآخرون أكثر؟! هل نترك مجتمعنا يتحول إلى غابة يحكمها مَن يجيد رفع صوته أكثر، أو يُشهر سلاحه ويروع به الآخرين؟!.. ما الحل؟! .. الحل أننا بالفعل فى حاجة إلى مشروع وطني حقيقي لمواجهة البلطجة، لا مشروعًا أمنيًا فقط.. مشروعًا اجتماعيًا وثقافيًا يضم الإعلام، والتعليم، والمؤسسات الدينية، والمجتمع المدني، ونعيد النظر فى التشريعات للردع وليس للعقوبة فى حد ذاتها. نحتاج إلى إعادة تعريف "القوة" فى وعي الناس، إلى ربط الرجولة بالكرامة لا بالعنف، وإلى تقديم نموذج "القدوة" الحقيقي الذي يُحب الناس أن يتبعوه لا أن يخشوه. البلطجة جرس إنذار، لكنها أيضًا مرآة تعكس صورة رديئة لواقع يحتاج لإعادة نظر، وإصلاح لا يحتمل التأجيل، فإما أن نستعيد الشارع لصالح القانون، أو نُسلِّم مفاتيحه للبلطجي.