يقول الله تعالى فى الآية 156 من سورة البقرة: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، هذه الآية العظيمة ارتبطت معنا عادة بترديدها عند سماع خبر وفاة أحد الأقارب أو الأصدقاء أو الجيران، لأن الموت مصيبة، ونحن نشعر بهيبة الموت ورهبته كلما كان المتوفى قريبًا منا، وبعد مواراة جثمانه الثرى، تظل صورته تتراءى أمام أعيننا، ونشعر بصوته يتردد فى آذاننا، فنردد "إنا لله وإنا إليه راجعون"، تصديقًا وإيمانًا بأن الموت علينا حق، وأن كل نفس ذائقة الموت. ومن طباع النفس البشرية أنها تخشى الاقتراب من عالم الأموات، وتشعر بالانقباض كلما مرت بمنطقة مقابر، فتسرع الخطى حتى عبور المنطقة بسلام، رغم أن الموتى قد يكونون فى اشتياق إلى هذه الخطوات العابرة، لتؤنس عليهم وحشة القبور، ولهذا حثنا النبي صلى الله عليه وسلم بزيارة قبور الموتى بعد أن كان منعها لفترة، حتى تكون للأموات أُنسًا وصلة، وللأحياء عظة وعبرة، فلا ننسى أن هذا هو مصيرنا المحتوم، وأن هذه الدنيا دار فناء لا محالة، وأن إقامتنا فيها مؤقتة، وغير معلومة المدة بالنسبة لنا. فى رحلة الانتقال من هذه الحياة إلى عالم الأموات، هناك وسطاء يعملون ويتحركون بكل همة ونشاط، فى مقدمتهم الحانوتية، ومنظمو الجنازات، الذين يضعون كبار السن نصب أعينهم كزبائن محتملين رغم أن الموت لا يفرق بين كبير وصغير، لكن من الصعوبة بمكان أن يأتى حانوتى إلى شاب فى الثلاثينيات من عمره ليتفق معه على ترتيب جنازة، لكنه سيفعل هذا مع كبار السن وهو مطمئن بدعوى ترتيب جنازة "محترمة" و"كفن" يليق بهم، عندما تخرج الروح إلى بارئها، وسيبذل كل جهده لإقناعهم بدفع مصاريف الجنازة والدفن وهم أحياء يرزقون خوفا من الضياع وسط خلافات الأبناء والورثة على التركة فور إعلان نبأ وفاتهم! مثل هذه الاتفاقات كانت قبل سنوات قاصرة على فئة معينة من الناس، وكانت تعد من قبيل الرفاهية الزائدة، لكنها فى الآونة الأخيرة لم تعد هكذا، حتى إنها انتشرت فى الأوساط الشعبية، ومثل كل شيء فى عالمنا الحالى، أصبحت هناك عروض، وتيسيرات فى السداد، يقدمها السادة الحانوتية لزبائنهم من الموتى المحتملين، فأصبحنا نرى رجالاً ونساءً بعد وصولهم إلى سن معينة يبرمون اتفاقات مشابهة مع الحانوتية، ويقتطعون مبالغ من معاشاتهم البسيطة كى يسددوا أقساط الحانوتى، لأنهم لا يضمنون مفاجآت الزمن، ولا تحولات الأشخاص، ويأملون فقط حين يأتى الأجل أن يغادروا هذه الدنيا بسلام، ويوارى جسدهم الثرى بكرامة، تاركين هذه الحياة وصراعاتها الزائفة لأولئك الذين يرغبون فى مواصلة الصراع.