في عام 2013 أطلقت صاحبة كتاب "الحرب الباردة الثقافية" من الذي يدفع للزمار طبعة جديدة من كتابها الذي صدر نهاية القرن العشرين 1999 محدثًا ضجة كبرى عندما نُشر فى ذلك الوقت، وتمت ترجمته إلى عدة لغات منها العربية، ما حدث من ضجة كان نتيجة طبيعية لما شمله من وثائق لوكالة المخابرات الأمريكية. حرصت فرانسس هيلن جين ستونر سوندرز، الباحثة والصحفية البريطانية خلال الطبعة الأولى من الكتاب أن تكشف الدور الذي قامت به القوى الناعمة (الثقافة والإعلام) فى إدارة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، فكانت النتيجة الأخيرة لذلك الصراع هي غلبة الأخير (الغرب) وانهيار القطب الثاني للعالم (الاتحاد السوفيتي) وأصبح العالم أحادي القطبية منذ ذلك الحين. ما جاء فى الطبعة الأولى ارتكز على فترة الخمسينيات والستينيات وأوائل السبعينيات وهو ما تعرضت له بالتفصيل من قبل فى عدة مقالات نشرتها هنا فى مجلة أكتوبر 2019. كشفت الكاتبة البريطانية الدور الذي قامت به وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فى مجال الثقافة والفنون والآداب، وكيف استطاعت من خلال بيت الحرية أن تغير المفاهيم وتعمل على تنفيذ ما لم تنجح فى تنفيذه القوة العسكرية والسياسية، من إعادة تشكيل العالم والوصول بالولاياتالمتحدةالأمريكية إلى الهدف الاستراتيجي المنشود، بأن تصبح القوى العظمى وتفرض سيطرتها على العالم. مع تعدد طبعات الكتاب والضجة التي كانت تصاحبه عمدت الكاتبة فرانسس هيلن جين ستونر سوندرز، إلى إضافة جديدة فى الطبعة الصادرة 2013 أي بعد الطبعة الأولى ب 14 عامًا لتكشف أن الحرب الباردة الثقافية لم تتوقف بل هي حرب مستمرة حتى الآن. فذكرت كيف أن «هنري كسينجر» ثعلب السياسة الأمريكية ووزير خارجيتها الأسبق، هرول مسرعًا وهو ينسحب من مناقشة إذاعية حول الكتاب، وهاجم الكاتبة بشدة متحدثًا عن أن نظرتها لإدارة الولاياتالمتحدة للثقافة والفنون كانت غير عادلة، لكنه لم يستطع أن ينفي الوقائع التي سردتها الكاتبة والتي كشفت كيف استخدمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية كل أدواتها فى مجال الثقافة والفنون والآداب خلال تلك الحرب. كما ذكرت الكاتبة ما دار بينها وبين رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون فى حفل استقبال أقيم عام 2007، عقب توليه رئاسة الوزراء، مؤكدًا أنه قرأ الكتاب باهتمامٍ كبيرٍ وفكّر فى أن برنامج الحرب الثقافية سيكون شيئًا جيدًا للغاية (تولى جوردون براون رئاسة الحكومة البريطانية فى الفترة من 2007 وحتى 2010). إن المخططات التي استهدفت العديد من الدول فى تلك الحرب لم تنجُ منها دول المنطقة، فقد كانت ولا تزال منطقة الشرق الأوسط إحدى مناطق ومسرح العمليات لمثل تلك الحروب. حرب أسلحتها الرئيسية تعتمد على تدمير الهوية وضرب قيم وثوابت المجتمعات المستهدفة، وبشكل يجعل المستهدف لا يشعر بأنه أصبح مسرحًا لعمليات مخطط لها بدقة تستهدف زلزلة المجتمع من الداخل. ولأن الإعلام والثقافة يلعبان دورًا محوريًا فى تشكيل المجتمعات وتوجيهها، يمكن أن يكون لهما تأثير إيجابي أو سلبي، مما يؤدي إلى تفكيك أو تعزيز الروابط الاجتماعية، الأمر الذي جعل وحدات الحرب النفسية تعتمد بشكل كبير على الإعلام والثقافة والفنون والآداب، عند تخطيطها لتحقيق هدف استراتيجي محدد. لكن تلك المسارات لن يكتب لها النجاح ما لم تكن خطة التحرك عليها طويلة الأمد، وهو ما تعمد إليه الإدارات والأجهزة الاستخباراتية فى إدارتها للحروب الباردة ضد الدول المستهدفة. فتغيير السلوك المجتمعي ليس بالأمر الهين بل يحتاج إلى مزيد من الوقت للوصول إليه. بل إن استمرار نشر الحقائق وتوفير المعلومات قد يكون سلاح ردع قويًا فى مواجهة تلك الشائعات. لكن بناء سلوك مجتمعي أو القضاء على قيم مجتمعية بعينها لا يحدث بتلك السرعة، فهو يحتاج أن يتحرك بشكل أكثر هدوءًا حتى لا تحدث مواجهة له منذ اللحظة الأولى. على سبيل المثال أن تحوّل مجتمعًا من المجتمعات إلى مجتمع استهلاكي، تلك عملية معقدة تستلزم التحرك على عدة مسارات أبرزها وأكثرها قوة هو المحتوى الفني (الدراما والسينما) والإعلام من خلال الحملات الترويجية التي تنمّي لدى أفراد المجتمع الرغبة الشديدة فى امتلاك العديد من السلع تحت مسمى مزيد من الرفاهية. وكذا تسهيل البيئة الاقتصادية من خلال تسهيل القروض لتسهيل عمليات الشراء. وهذا النمط من الشعوب (النمط الاستهلاكي) لا يؤثر سلبًا على الدول حال كانت تلك الشعوب أكثر إنتاجًا وهو ما يحدث حالة من التوازن، فى حين أن تلك السلوكيات مدمرة حال انخفاض الإنتاج وزيادة الاستهلاك. فينهار الاقتصاد وتذخر الدول بالأزمات المتلاحقة، ويصبح التوتر وعدم الاستقرار سمة أساسية، فيتم الانقضاض عليها فى الوقت المناسب. فالثقافة تلعب دورًا فى تعزيز الهوية الجماعية، لكنها قد تؤدي أيضًا إلى تعزيز الانقسامات بين المجموعات المختلفة، الأمر الذي ينفذ من خلاله العدو للوصول إلى الهدف بإحداث مزيد من الانقسامات داخل المجتمعات. فيتم استخدام تبادل الأفكار لتعزيز الأيديولوجيات المتطرفة، وكذا استخدام الفنون والإبداع لتشويه الحقائق أو تعزيز الانقسامات. كل ذلك يجري تحت ستار حديث ثابت، وهو الدعوة إلى حرية الإبداع، وهو ما لا يختلف عليه أحد؛ فحرية الإبداع هي التي تكسب المجتمعات الحيوية والنمو، وهي التي تجعل المجتمع أكثر نضحًا، لكنها الحرية المسئولة وليست الحرية المطلقة التي لا تصنع سوى الفوضى. إن ما يحدث فى المجتمعات خاصة النامية منها، هو حرية تتبنى الفوضى منهجًا وتخلق أجيالاً لا تؤمن بالأوطان، بل تكفر بالقيم والثوابت الأخلاقية والمجتمعية، فينمو جيل من السهل السيطرة عليه، أو الدفع به فى أي اتجاه. هنا يصبح من الواجب على الدول التحرك فى ذلك المسار لتقويمه قبل أن يتسبب فى أكبر كارثة قد تحدق بالوطن. لقد استطاعت الولاياتالمتحدة أن تقدم صورة مختلفة للعالم عن الجندي الأمريكي فى حرب فيتنام التي مُنيت بهزيمة فيها على مسرح العمليات لكنها انتصرت فيها سينمائيًا. إن ما تقوم به الفنون (الدراما -السينما) والآداب والثقافة والإعلام فى إدارة عمليات الحرب الباردة يجعلها من أقوى أسلحة المعارك الخفية. وبعيدًا عد القضية الجدلية التي يحاول البعض أن يقذف بنا إليها عن الحديث عن المؤامرة، سواء كانت واقعًا أو غير ذلك، لكن هناك ثوابت ووقائع نراها على الأرض. فالسينما التي تبنت مشاهد العنف والبلطجة بدعوى مناقشة قضية، استطاعت أن تحوّل تصرفات أحادية إلى مشهد جماعي، يخلق حالة من السلبية فى رد الفعل على مثل تلك التصرفات. وكذا الدراما والرواية وما تقذف به من سلوكيات ومفردات وجُمل لغوية تؤثر سلبًا فى المجتمع إذا ما أدرك كاتبها أنه بما يقدم إما أن يكون من بين من يبنون مجتمعًا قويًا أو يكون معول هدم للمجتمع. وعلينا أن نراجع ما تم خلال العقدين الأخيرين وما أنتج خلال تلك الفترة وهنا نحن لا نعمم، لندرك أن ما نراه الآن وما يرفضه المجتمع لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتاج سنوات مضت صمتنا وغضت الدولة الطرف عنه، وتم الدفاع من قبل البعض أيضًا بدعوى حرية الإبداع. فالإعلام والثقافة لهما تأثير كبير على المجتمعات، من المهم أن نكون واعين لكيفية استخدامهما، وأن نعمل على تعزيز الرسائل الإيجابية التي تعزز الوحدة والتفاهم. كما أن القيم والأخلاقيات تعد أساسًا لتماسك المجتمعات، عندما تنهار هذه القيم، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تفكك المجتمعات بشكلٍ ملحوظٍ. فانهيار القيم يؤدي إلى فقدان الثقة بين الأفراد، مما يضعف الروابط الاجتماعية. كما أن ضعف الأخلاقيات قد يؤدي إلى زيادة معدلات الجريمة والفساد، مما يضر بالأمن الاجتماعي. إن انهيار القيم والأخلاقيات له تأثيرات عميقة على تفكيك المجتمعات، من الضروري العمل على تعزيز هذه القيم والأخلاقيات لضمان تنمية مجتمعات صحية ومتماسكة. فانهيار الأخلاقيات يعزز من انتشار الفساد فى المؤسسات، مما يؤثر سلبًا على التنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن محاولات النيل من ثوابت وقيم المجتمع لم تتوقف لحظة وكذا استهداف مؤسساتها. فما تشهده الدراما والسينما وما تتناوله من قضايا لا يستهدف علاج الأزمة كما يحاول البعض تبرير ما نشهده من تدنٍ فى الموضوعات، وتقديم نماذج مغايرة لواقع المجتمع تمامًا، من بلطجة وانعدام أخلاق وألفاظ تتحول من نطاق ضيق إلى محيط أوسع. فالدراما تستطيع النفاذ إلى المجتمع بأكمله والتأثير فيه بقوة وهو ما جعلها أحد أهم أدوات الحرب الباردة لتسطيح المجتمعات، وتغيير المفاهيم، وتقديم النماذج السابقة التجهيز وفق التصور المحدد لها، بدءًا من المظهر (الزي) والألفاظ والجُمل، والتصرفات، لصناعة مفاهيم وقيم جديدة يمكن إدخالها على المجتمعات المستهدفة، تسهل من عمليات السيطرة فى التوقيت المحدد. أو تقوم بتشويه المجتمعات فتخلخلها من جذورها برسم صورة ذهنية غير صحيحة عنها سواء فى الداخل أو فى المحيط الخارجي، مما يصيب المجتمع بحالة من الإحباط والسلبية، بأن تقدم معظم أفراد المجتمع خارجين على القانون (تجار مخدرات، وسلاح، وآثار، وبلطجة، وغيرها من الجرائم)، وهو ما يتنافى تمامًا مع الواقع. إن تماسك المجتمع بقيمه وأخلاقياته وثوابته تجعله أكثر قدرة على مواجهة التحديات والحفاظ على دولته الوطنية.