شرفنى الأستاذ محمد أمين رئيس تحرير مجلة أكتوبر الغراء بالإسهام بسطور متواضعة عبر صفحات المجلة التى ساهمت فى تكوين وعينا نحن الجيل الذى رأى حرب السادس من أكتوبر بأم عينيه، وإن كنا صغارًا وقتها، وفى الحق لم أرد أن تكون البدايات بعيدة، وفضلت أن أتناول قضية التسامح والتعددية فى مصر القديمة، عسى أن تكون مدخلا لمصر التنويرية الناهضة فى أعقاب 30 يونيو 2013. فى مؤلفه الأشهر «فجر الضمير» يحدثنا عالم الآثار الأمريكى الكبير «جيمس هنرى بريستد»، عن منظومة العدالة الاجتماعية التى جاهد المصريون القدماء فى سبيلها، ويستحضر لنا بعض المشاهد التى تبين لنا الجهاد الكبير فى سبيل الوصول إلى هذا الرقى الإنساني. خذ إليك الإجراءات والطقوس الفرعونية المتبعة عند تعيين وزير بعينه، والتى تساوى فى حاضرات أيامنا مسألة «حلف اليمين» أمام رئيس الدولة. «فى قاعة مجلس الفرعون يجتمع أعضاء المجلس، وقد أمر الواحد (يعنى الملك) بإحضار الوزير الأعظم (رئيس الوزراء) الذى نصب حديثاً، ووجه له الفرعون خطاب التكليف التالي: «تبصر فى وظيفة الوزير الأعظم، وكن يقظاً لمهامها كلها. انظر إنها الركن الركين لكل البلاد، واعلم أن الوزارة ليست حلوة المذاق، إنها مرة.» «واعلم أنه عندما يأتى إليه شاكٍ من الوجه القبلى أو من الوجه البحري، أو من أى بقعة فى البلاد، فعليك أن تطمئن إلى أن كل شىء يجرى وفقاً للقانون، وأن كل شىء قد تم حسب العرف الجاري، فتعطى كل ذى حق حقه، واعلم أن الوزير يحتل مكانة بارزة وأن الماء والهواء يخبران بكل ما يفعله، واعلم أن كل ما يفعله لا يبقى مجهولاً أبدًا». ويضيف: «لا تنسى أن تحكم بالعدل، لأن التحيز يعد طغيانًا على الإله، وهذا هو التعليم الذى أعلمك إياه، فاعمل وفقًا له، عامل من تعرفه معاملة من لا تعرفه، والمقرب من الملك كالبعيد عنك، واعلم أن الأمير الذى يعمل بذلك سيستمر هنا فى هذا المكان، ولا تغضب على رجل لم تتحر الصواب فى أمره، بل اغضب على من يجب الغضب عليه». كانت الألوهية هى الأساس الذى قامت عليه مصر المتسامحة، وما تعددية الآلهة عند الفراعنة، من دون تجاوز على الآخر، إلا خير مثال على تجذر التسامح فى حياتهم. عبد المصريون على مدار تاريخهم عدداً كبيراً من الآلهة، وتشير نصوص المقابر والنصوص الأدبية إلى أن الفرد لم يرتبط بإله واحد. فعلى سبيل المثال، تنص الصيغة الافتتاحية لخطابات عصر الرعامسة (1292 ق.م – 1077 ق.م) على ما يلي: «أدعو آمون ، ورع، وكل الآلهة، وموت، وخونسو، وكل آلهة طيبة أن يعيدوك سالمًا» . ولعل السؤال المثير، كيف استطاع الفراعنة أن يعيشوا فى تسامح رغم تعدد الآلهة التى كانوا يعبدونها؟ فلسفيًا يعد الإله هو قمة المطلق الذى لا يأتيه الشك من خلفه ولا من بين يديه، ولهذا فإن تعددية المطلق تعددية زائفة، فالمطلق بحكم تعريفه واحد لا يتعدد، وإذا تعدد فصراع المطلقات حتمي. وتساير هذا القول نتائج الأبحاث التى أجريت على الصراع فى مجتمعات متباينة وهى أن الصراعات الاقتصادية تدور على الخيرات القابلة للقسمة، وهى لهذا صراعات قابلة للتفاوض، ومن ثم من الميسور حلها، وعلى الضد من ذلك الخيرات التى لا تقبل القسمة فإنها لا تقبل التفاوض وصراع المطلقات من هذا القبيل. التحليل السابق كان يعنى أن الفراعنة ومن جراء الآلهة المتعددة المنتشرة فى بلادهم، لا بد لهم من الصراع الأهلي، بل التطاحن والحروب فيما بينهم، حتى ينفرد أو يستقل أحد الآلهة بالبلاد والعباد؛ غير أن ما رأيناه كان مثيراً إلى حد الدهشة، بمعنى قبول الآلهة المختلفة، وقبول أولئك المؤمنين بها، وربما كان هذا، ما وفر للمصرى القديم الوقت والفرصة لبناء حضارته القديمة. إحدى أهم الأحاجى الإنسانية التى تبين لنا مقدار التسامح الذى عرفته مصر الفرعونية بين أتباع الأديان والموروثات الإيمانية هى قصة آتون وآمون. وصفت ديانة أخناتون أثناء عصر العمارنة (الأسرة 18) ب «الوحدانية»، وأعلن أنها إشارة محتملة إلى أن المصريين كانوا مصدر الفكر اليهودى – المسيحي. وفى عصر العمارنة رفع أخناتون إلهه «آتون» إلى المكان الأسمى فى البانثيون (الهيكل المكرس لجميع الآلهة)، وطاف موظفوه فيما بعد عهده أنحاء مصر يقيمون تماثيل ومعابد للإله آتون. كانت فترة «العمارنة» منطلقاً للديانة الآتونية، تلك التى اصطلح البعض على أنها إرهاصات الوحدانية القادمة، ويجب إعلاؤها فوق الآلهة الأخرى. لكن ذلك لم يمنع أن يكون لآمون كهنته ومعابده فى جنوب مصر، فقد أقام أخناتون مملكته فى مصر الوسطى، فى منطقة تل العمارنة، حيث محافظة المنياجنوب العاصمة المصرية القاهرة. كان آتون هو الإله الجديد الصاعد، وآمون الإله القديم الباقي، وقد جرت جدالات فقهية أو لاهوتية بين كهنة الجماعتين، جدالات وحوارات عقلانية لم تخرج عن سياق عالم الفكر حيث الآخر مقبول ومرغوب ومتسامح معه، بدون عزل أو إقصاء، أو رغبة فى الخلاص منه. ولعل أعظم دليل على التسامح الذى ساد فى مصر الفرعونية هو أنه بعد رحيل أخناتون، وفشل دعوته فى إحداث مفارقة عن الدين التقليدى لآمون، أننا لم نر انتقاما من كهنة آمون تجاه كهنة آتون، بل تم العطف عليهم، ومن ثم تم احتواؤهم من جديد، وتقديم فرص إعادة التأهيل الفكرى لهم، كل هذا من أجل الحفاظ على روح التسامح الإنسانى داخل القطر المصري، ولهذا تجاوز المصريون عقبة صراع الأديان، حتى وإن كانت هذه الأديان وضعية، من منظورنا المعاصر، اخترعها البشر، وعبدها البشر، لكنها فى كل الأحوال كانت بالنسبة لهم آلهة مطلقة التقديس. وفى كل الأحوال لم يتناحر المصريون القدماء بسبب تعددية المطلق لديهم، بل فى رحابة وتسامح غير مسبوقين كانت فكرة قبول الآخر هى السائدة والرائدة، وربما كان هناك قبول لإشكالية النوع الإنساني، ذكر أو أنثى، بنوع سابق للكثير من الأمم والحضارات .. ماذا عن ذلك؟