هذه الفوضى الإعلامية على شاشات الفضائيات التليفزيونية الخاصة التى تشهدها وتشاهدها مصر حاليًَا.. من شأنها لو استمرت على هذا النحو أن تشعل فوضى سياسية واقتصادية وأن تشيع بالضرورة فوضى اجتماعية وفُرقة وفتنة شعبية. هذه الفوضى الإعلامية خطر حقيقى محدق بمصر يهدد بتمزيق اللُحمة الشعبية الوطنية التى تحققت منذ ثورة 30 يونيو. بالمشاهدة الدقيقة لما تبثه تلك الفضائيات من منتجها الإعلامى، خاصة برامج «التوك شو» يتضح جليًا حرص غالبية هذه البرامج الحوارية على شغل الرأى العام المصرى بقضايا هامشية يجرى افتعالها وتقديمها باعتبارها قضايا مهمة لإثارة الجدل والخلاف العميق حولها، سواء بين ضيوف هذه البرامج أو من خلال المداخلات الهاتفية، ليستمر الجدال طوال مدة الحلقة والذى سرعان ما يتحول إلى معركة كلامية لا تنتهى بالتوصل إلى أية نتيجة أو حسم لتلك القضايا المفتعلة، ولكن بخروج جميع الأطراف مهزومين ويكون المنتصر الوحيد هو مقدم البرنامج وقناته الفضائية بعد النجاح المطلوب فى إحداث البلبلة لدى جمهور المشاهدين! إن هذه النوعية من برامج الفضائيات وتلك القضايا الهشة الهامشية المفتعلة لم تعد مقصورة على فضائية بعينها، بل إنها صارت السمة المشتركة فى كل الفضائيات المصرية الخاصة وفى غالبية برامجها الحوارية والتى تحولت إلى نسخ مكررة متكررة متشابهة.. يقلد بعضها بعضًا، لا تختلف إلا باختلاف مقدميها من الإعلاميين والإعلاميات. ثم إن ثمة سمة أخرى تجمع بين كل تلك البرامج الحوارية المتشابهة فيما تقدمه وتعرضه من قضايا هامشية وهى الفوضى فى إدارة الحوار بين الضيوف حيث تعلو الأصوات وتتداخل فى صخب وضجيج ولا يتمكن المشاهدون من الاستماع والمتابعة بينما مقدمو هذه البرامج سعداء بما يعتبرونه سخونة الحلقة. هذه الفوضى وهذا الصخب والضجيج وهذه السعادة التى تتبدى على وجوه مقدمى تلك البرامج «الساخنة» هى معيار نجاح البرنامج ونجاح الفضائية فى جلب المزيد من الإعلانات التى تدر أموالًا طائلة.. ولا عزاء للمهنية ولا عزاء لمواثيق الشرف الإعلامية.. بل لا عزاء للوطنية. *** إنه بالمتابعة الدقيقة وبالتقييم المهنى الإعلامى يتأكد سقوط هذه النوعية من برامج الفضائيات سقوطًا مهنيًا فادحًا وفاضحًا سواء من حيث الإعداد غير المدروس وغير الملم بجوانب القضايا المطروحة للمناقشة، أو من حيث إدارة الحوار والمناقشات على نحو يتيح الفرصة الكاملة للمتحدثين ليكملوا آراءهم، ومن ثم خروج المشاهدين بفائدة ما أو بنتيجة مفترضة بعد متابعة بالغة الإرهاق لذلك الصخب والضجيج، ولذا فإنه ينطبق على هذه البرامج المثل الشهير:(أسمع ضجيجًا.. ولا أرى طحينًا). *** ومما يُعد مدعاة للدهشة وللريبة أيضًا هو أن هذه الفضائيات الخاصة ببرامجها الحوارية «الساخنة» وبقضاياها الهامشية المفتعلة تغفل، بل تتغافل تمامًا عن قضايا الوطن الحقيقية وفى مقدمتها معارك الدولة ضد خطر الإرهاب الذى لا يزال يهدد مصر وأمنها القومى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى. وفى نفس الوقت فإنها تتغافل عن الإنجازات والمشروعات القومية التى تحققت على أرض الواقع فى شهور قليلة بينما كان إنجازها لا يتحقق إلا بعد سنوات، ولا تشير إليها إلا على استحياء وفى عجالة لا تتناسب مع إنجاز يرقى إلى درجة الإعجاز. الخطير فى ممارسات غالبية الفضائيات المصرية الخاصة فيما تبثه من برامج هو أنها تشيع الإحباط واليأس بين المصريين بقدر ما تشيعه من فوضى وبلبلة، وهى بذلك غائبة غيبة مؤسفة عن أداء دورها ورسالتها الإعلامية الضرورية والواجبة فى هذه المرحلة بالغة الخصوصية التى تجتازها مصر لبناء الدولة المدنية الحديثة.. سبيلًا إلى تحسين الأحوال المعيشية بعد سنوات طويلة تراكمت خلالها المشكلات والأزمات.. وسبيلًا إلى تحقيق مستقبل أفضل لأجيال قادمة. *** غير أن هذه الاتهامات الموجهة للفضائيات وبرامجها لا تعنى بأى حال من الأحوال أن المطلوب منها «التطبيل» للحكم وللرئيس السيسى، لأن الرجل بشعبيته الجارفة لدى المصريين وباجتهاده المخلص فى إدارة البلاد ليس بحاجة إلى أى «تطبيل» إذ يبقى من حق الإعلام بل من واجبه أن ينتقد الأخطاء وأن يلقى الضوء الأحمر على أى فساد وأن ينبه الحاكم إلى الأخطار وأن يمارس دوره بمهنية وموضوعية وأيضًا بوطنية متجردة.. لذا لزم التنويه. كما أن هذه الاتهامات الموجهة للفضائيات لا تعنى أيضًا العودة إلى دور الإعلام التعبوى الموجه الذى يتحدث بلسان الحاكم، إذ لا يخفى أن هذا الإعلام فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى قاد مصر إلى هزيمة عسكرية لا تزال تعانى ويلاتها وتداعياتها حتى الآن حسبما انتبه ونبه إلى ذلك الرئيس السيسى قبل أيام عندما أشار إلى أن مشكلات مصر بدأت منذ عام 1967. وفى هذا السياق، أذكر وأذكّر بأننى نبهت إلى مخاطر العودة إلى إعلام الستينيات فى مقال سابق بعنوان (إعلام عبد الناصر.. وإعلام السيسى) تعليقًا على قول الرئيس السيسى بأن عبد الناصر كان محظوظًا بالإعلام. *** الامر الآخر هو أن خطر وخطأ هذه الفضائيات لا يتوقف عند ما تقدمه من برامج تشيع الإحباط واليأس والبلبلة السياسية والاجتماعية، بل يمتد إلى ما تبثه بعضها من أفلام سينمائية سوقية هابطة حافلة بالبذاءات ومشاهد الدماء والعنف والقتل وهى نوعية الأفلام التى ابتليت بها السينما المصرية مؤخرًا لا يليق عرضها على شاشات الفضائيات وعلى الناس.. النساء والأطفال والشباب فى البيوت باعتبارها خطرًا يهدد الأمن الاجتماعى وتحريضًا على العنف. ولكن دواعى الموضوعية تقتضى الإشارة إلى أن بعض البرامج الحوارية فى بعض الفضائيات خارج دائرة هذه الاتهامات (صاحبة السعادة).. نموذجًا أى التعميم غير وارد، رغم أن بعض البرامج الهادفة المحترمة يتبدد أثرها الإيجابى وسط الفوضى والبلبلة الإعلامية السائدة. *** إن هذه السطوة الإعلامية للفضائيات الخاصة بما تفرضه من «أجنداتها» على الرأى العام وعلى نحو تبدو معه وكأنها تحكم وتتحكم فى مصر تمثل خطرًا حقيقيًا على الوطن وهو الأمر الذى يستدعى ضرورة إحياء دور تليفزيون الدولة ولا نقول التليفزيون الحكومى، وذلك لإعادة الاتزان والتوازن للإعلام. *** يبقى أنه بات ضروريا وملحًا الإسراع بإصدار التشريعات الإعلامية وتشكيل مجالسها المنصوص عليها فى الدستور باعتبار أنها هى التى تراقب وتضبط الأداء الإعلامى حتى تتوقف فوضى الفضائيات فى المشهد الإعلامى المصرى، أما الصحافة فلها حديث آخر.