كثير من الناس يحاكون أقوال الناس أو أفعالهم أو صفاتهم وخُلقهم، قولًا وفعلًا ، أو إيماء وإشارة، على وجه يضحك البعض منهم. إيذاء وتحقيرًا وإظهار العيوب والنقائص، فإنْ كان المستهزأَ به غير حاضر، فتصبح غيبة، وقد حرّمها الشرع لإيجابها العداء وإثارة البغضاء، وإفساد العلاقات الودّية بين أفراد المؤمنين، وكيف يجرأ المرءُ على السخريّة بالمؤمن واستنقاصه وإعابته، وكل فرد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلو من المعائب والنواقص، ولا يأمن أن تجعله عوادى الزمن يومًًا ما هدفًا للسخرية والازدراء، لذلك حذّر القرآنُ من السخرية بقوله:- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} وحول هذا كان التحقيق التالى:-يقول الدكتور محمد ابراهيم الدهشورى أستاذ أصول الفقه كلية الدراسات العربية والإسلامية بجامعة الازهرالقاهرة:- انتشر الاستهزاء بالآخرين بين كثير من الناس نتيجة لضعف الإيمان، ما أشاع بين أفراد الأمة الكراهية المقيتة، ولا يحب البعض منهم أن يرى ما فضل الله به غيره عليه، لذلك فإن الله سبحانه وتعالى ينهى عن السخرية بالناس فى قوله:- {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} وقوم هنا بالتنكير لتعم الناس جميعا مسلمين وغير مسلمين، لأن الإسلام يحترم الإنسانية ولا فرق فى الدين، كما ثبت فى الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الكِبْر بطر الحق وغَمْص الناس. ويروى: وغمط الناس أى احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له. فعندما مر عمر بن الخطاب بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه فقال: من أىّ أهل الكتب أنت؟ قال: يهوديقال: فما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال الجزية والحاجة والسن. فأخذ عمر - رضى الله عنه - بيده فذهب به إلى منزله، فأعطاه، ثمَّ أرسل إلى خازن بيت المال وقال:- انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبته ثمَّ نخذله عند الهرم وينقسم الاستهزاء إلى نوعين، الأول وهو الأشد خطورة على اعتقاد الناس، وفى حال ما قام به أحد الأشخاص، من خلال القول أو العمل الذى يحمل فى طياته سخرية واضحة غير قابلة للتأويل واللبس، فإنه يخرجه من الملة، ومثال ذلك الاستهزاء بالله سبحانه وتعالى فى علاه، وكذلك الاستهزاء بالأنبياء والرسل عليهم السلام، وبالقرآن الكريم. أما النوع الثانى من أنواع الاستهزاء فهو السخرية من الآخرين والتى يمارسها بعض الناس، التى تنم عن ضعف فى تقوى الله المتكبر، ما يؤدى إلى ضعف الإيمان ونشر الأخلاق الذميمة، وبخاصة الكراهية والحقد والغل والحسد والتباغض والتنافر، فتتحول الرحمة والسكينة والأمن والطمأنينة فى المجتمع، إلى تباغض وفوضى وترصد بالآخر وحقد دفين. ويقول د أحمد طيبة كلية التربية جامعة الأزهر:- أيها المستهزأ الساخر لك عيوب وللناس ألسن فمن الظواهر التى يشهدها المجتمع ظاهرة السخرية والاستهزاء التى تتمثل فى محاكاة أقوال الناس أو أفعالهم أو صفاتهم، والسخرية والاستهزاء لا ينفكان عن الإيذاء والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص، وقد اعتبر الشارع الحكيم السخرية والاستهزاء من المحرمات فى حق من يتأذى به لما فيه من التحقير والاستصغار للمؤمن، قال تعالى:-{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}. ولا تصدر السخرية والاستهزاء بالآخرين إلا من أصحاب الخصال الذميمة ممن ينتقص دينهم وإيمانهم وسوء تربيتهم ممن لا خلاق لهم، أولئك الذين يشعرون بالكمال من أنفسهم تكبرًا وغرورًا، وتصل فى غالب حالاتها إلى الغيبة، والسب؛ لأن المستهزأ به لا يرضى بما يقال عنه، ولا يخفى خطر ذلك على الفرد والمجتمع، فالغيبة كبيرة من الكبائر، وسباب المسلم فسوق، فقد نهى الله ورسوله عنها فأنكر النبى صلى الله عليه وسلم على من ضحك من عبدالله بن مسعود رضى الله عنه لدقة ساقيه وقال: (أتهزأ من ابن أم عبد، فوالله إنه عند الله أثقل من جبل أحد)، وقد نهى الله الرجال والنساء عن هذه الخصلة الذميمة فى سورة الحجرات:- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ}، فلعل الذى تسخر منه يكون خيرًا منك. ووصف الله من لم يتب منها بالظلم، ووصمه بالفسق بعد الإيمان. وانتهاج سلوك السخرية ينافى العدل والطريق القويم وهو مدخل للبغضاء وإيغار الصدور ووقوع الشرور بين الناس والمجتمعات، فهو أشبه ما يكون بحالة مَرضية ينتج عنها تصرف غير لائق تجاه الآخرين بقصد التحقير والاستهزاء، وإضحاك الناس ولكن الواضح أنها لا تنبع من فراغ، وإنما هو سلوك يفصح عن عقدة النقص الكامنة لدى فاعله، مع محاولة تغليفها والتستر عليها باستنقاص الآخرين والحط من مكانتهم. وأما النتائج التى يخلفها هذا العمل فهى كثيرة ووخيمة وسلبية مثل نقص الدين والإيمان وغياب التقدير والاحترام بين الناس فى أشخاصهم وآرائهم وعلومهم، وكذلك نشر الأحقاد والبغضاء؛ لأن النفوس السليمة جبلت على العزة والكرامة، لا تميل إلى من ينال منها، ويحتقرها، فالسخرية تهيج الضغينة والكراهية، وتدفع المجتمع نحو التصارع والأحقاد، وهى صفة يمقتها الإسلام. وكذلك فإن هذا العمل يشغل المجتمع بالتوافه ويبعده عن الفاعلية والإنتاج فالبيئة التى تسود فيها السخرية هى بيئة فارغة المحتوى لا تحمل هدفًا ولا قضية، بل هى أبعد ما تكن عن تحقيق الطموحات والأهداف التى ترجوها. وعلاج هذه الظاهرة يكمن فى استشعار نهى الله - تعالى - وحكمه فى مثل هذا السلوك، ومن ثم كأى سلوك سلبى يريد صاحبه اجتنابه فلابد من الإرادة والمراقبة وتوطين النفس عن الوقوع فيه، واجتناب مجالسه التى يقع فيها، والوعظ والإرشاد ببيان خطر ذلك، والإنكار على فاعله، وتذكير المستهزئ بمغبة ذلك، والتوبة منه، والإكثار من ذكر محاسن المستهزأ به والثناء عليه، والدعاء له، لإصلاح ما أفسده، ومن المهم فى هذا المجال أيضًا التأكيد على الجانب التربوى عند الأبوين باعتبارهما منشأ الأجيال الأول والموجه الأساس لأبنائهم صغار اليوم وكبار الغد، فعلى الوالدين التنبيه على مثل هذا السلوك والتحذير منه بلطف وحكمة، وأن يكونوا قدوة صالحة فى هذا الشأن. وعلى كل مسلم أن يعلم أن ما من بلاء إلا بقدر الله الذى يثيب على الصبر على المصيبة، وما هو فيه رفعة لدرجاته يوم القيامة، والاستهزاء به خسارة ويوم القيامة حسرة وندامة، فلا تشمت بأخيك فيعافيه الله ويبتليك، وتذكر أن من أعطاك الحسن والجمال، والفهم والكمال، والصح وسعة المال قادر على نزعها منك، ولكن بالشكر تدوم النعم، ومن شكر الله حمده على ما أعطى وعلى ما منع، فيعطى أقوامًا لحكمة ويمنع أقوامًا لحكمة، وقد جاء النهى فى الإسلام عن ازدراء الناس والسخرية منهم، والنهى يقتضى التحريم. وأقول للمستهزئ:- قد عرفت فالزم غفر الله لى ولكم ولجميع المسلمين. يقول الشيخ سليمان فرج من علماء الأزهر:- إن الاستهزاء بالمسلم من كبائر الذنوب، وقد أجمع العلماء على تحريم ذلك وفى كونه كبيرة محل للنظر، مع أنه قد روى عن ابن عباس فى قوله تعالى:- {لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها} [الكهف:- 49] قال:- الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك على حالة الاستهزاء وقيل:- إن الضحك على الناس من الجرائم والذنوب ومن معانى السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على من يضحك منه، وقد يكون ذلك بالتقليد فى الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماءة، وقد يضحك على كلامه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح فى صورته، وقد قال النبىّ صلى الله عليه وسلم:- (إن المستهزئين بالناس ليفتح لأحدهم باب الجنة فيقال هلم فيجئ بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه ثم يفتح له باب آخر فيقال:- هلم هلم فيجئ بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له الباب، فيقال هلم هلم فلا يأتيه من اليأس)، وقال بعض أئمة التفسير فى قوله تعالى:- چ? ? ? ? ??چ [الحجرات:- 11] من لقب أخاه وسخر منه؛ فهو فاسق.