من بين أفلام مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى دورته السابعة والثلاثين، لفت الأنظار بشدة فيلمان عرضا فى يوم واحد، يختلفان تماما فى الفكرة، ولكنهما يتفقان فى البراعة الفنية، وفى المعالجة المبتكرة، كما أنهما يتناولان الإنسان الذى يعيش مأزق لعبة الموت والحياة، كيف يمكن أن يتصرف؟ وكيف تختلف ردود أفعاله عندما يحاصره المرض، وينذره بالاستعداد للرحيل: بينما كان الفيلم الأول متفائلا، وواثقا فى قوة الفرد، وفى قدرته على الصمود، فإن الفيلم الثانى كان منحازا الى فكرة اختيار الموت، إذا ضاقت فرصة الحياة. فى الفيلم التشيكى "الرعاية المنزلية"، تلعب ألينا ميهولوفا ببراعة دور ممرضة تدعى فلاستا تعمل فى مجال الرعاية الطبية المنزلية لكبار السن، تزورهم فى البيوت، وتتفانى فى خدمتهم، وتتحمل بحب كبير مضايقاتهم، كأشخاص يؤرقهم المرض. إنها تبدو مثل قلب كبير لايتوقف عن العطاء للآخرين، بل إنها تمارس هذه العناية الزائدة مع ابنتها الوحيدة التى ستتزوج قريبا، بينما يرى زوجها عامل اللحام لادا أنها ترهق نفسها فى العمل أكثر من اللازم. تتغير حياة فلاستا عندما تكتشف بعد حادث عارض أن لديها سرطانا فى البنكرياس، وأن حياتها ستنتهى بعد ما لا يزيد عن ستة أشهر. طاقة الحياة التى تحملها فلاستا فى داخلها تبعدها عن اليأس، إنها تحاول أن تجد وسيلة للنجاة من خلال اللجوء إلى معالجة روحية، تحاول فلاستا أن تتعلم كيفية اختزان الطاقة داخل الجسم، وتجرب السيطرة على ألم الجسد بدون استخدام الأدوية والعقاقير، بل إنها تلتحق بصالة لتعلم الرقص، ولكن حياة فلاستا تضطرب دون إرادة منها، فالزوج لادا يشعر لأول مرة بأنه سيكون وحيدا. هى التى ستعلمه كيف يدير المنزل بعد موتها، وهى التى تحاول أن تستعيد معه لحظات رومانسية منسية منذ زواجهما. لن تحقق محاولات فلاستا الكثير فى السيطرة على ورم استشرى فى جسدها، ولكن الممرضة القوية لن تتوقف أبدا عن العطاء للآخرين، رغم أن المعالجة الروحية قالت لها أنها نسيت نفسها بسبب تكريس حياتها كممرضة لكبار السن. ينتهى الفيلم المتفائل بحفل زواج ابنة فلاستا ولادا، ترقص الممرضة فى سعادة، وتشارك زوجها فى إعداد الشراب، تتوقف وتختفى من المكان، يجلس الزوج منهكا، وبجواره مقعد فارغ، تنتهى الحكاية. أفضل ما فى هذا الفيلم الذى سيمثل دولة التشيك فى مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبى أنه تعامل ببراعة مع التفاصيل الإنسانية البسيطة، كما أن السرد شديد التكثيف، لا توجد لقطات زائدة، ولا أى نوع من الإسراف العاطفى، والترهل الميلو درامى، بل إن الفيلم بدون موسيقى تصويرية على الإطلاق، وكأن المخرج سلافيك هوراك يريد أن يمنح فيلمه طابع الحياة كما هى، ولا يريد أن يؤثر على المتفرج إلا بأداء ممثليه الكبار، وقبل كل شىء بالرسم الجيد للمواقف وللشخصيات. فلاستا صارت فى فيلمنا نموذجا للطاقة الإيجابية التى لا تتوقف حتى لو كان الموت على الأبواب، إنها تريد بالتأكيد أن تطيل حياتها، ولكن خطر الموت يتحول الى لحظة اكتشاف لنفسها وللعالم وللآخرين، بل إنها تمنح السعادة لزوجها ولابنتها ولمرضاها، وتقوم بتدريب شاب جديد على تمريض كبار السن. معنى الفيلم كله هو أن الموت يمكن أن يكون فرصة أخيرة لاكتشاف الحياة، وأن اليأس هو الموت الحقيقى، بينما لا تساوى الحياة شيئا بدون قدرة على العطاء، وفى كل الاتجاهات. على العكس من هذه النظرة، عرض المهرجان الفيلم الدانمركى "بين ذراعيك" للمخرج سامانو اشيشى سهلستروم، وهو عمله الروائى الطويل الأول. يحمل الفيلم نظرة متشائمة تماما تصل إلى درجة الانتصار لفكرة الموت الرحيم، التى تساعد المرضى الميئوس من شفائهم، على التخلص من حياتهم. لدينا هنا أيضا ممرضة، اسمها ماريا، ولكنها فتاة شابة فى سن الخامسة والثلاثين جاءت من السويد لتعمل فى كوبنهاجن، وهى تعتنى بمريض ميئوس تماما فى شفائه يدعى نيلز. الشاب يبدو غريب الأطوار، يعيش طوال الوقت مع صوت الموسيقى الصاخب، ثم يحاول الانتحار داخل حجرته بالمستشفى، ولكن ماريا تنجح فى إنقاذه. تعرف ماريا من خلال أم نيلز وعن طريق شقيقه أن نيلز يريد أن يذهب إلى سويسرا، حيث حصل على موافقة أحد مراكز "الموت الرحيم" على استقباله. الأم والأخ يرفضان الفكرة، ولكن ماريا توافق على أن ترافق نيلز فى رحلة اختار فيها الموت، بعد أن صار مشلولا، وبعد أن فقد تقريبا كل قدراته الجسدية، وتحوّل الى بقايا إنسان. تقود الرحلة الغريبة الثنائى نيلز وماريا الى هامبورج فى طريقهما إلى سويسرا، فى المدينة الألمانية التى عاش فيها نيلز خمس سنوات عندما كان صحيح الجسم، ستكتشف ماريا أن نيلز له طفل صغير من صديقته الألمانية، وأن أم الطفل ترفض أن يعرف الابن الصغير والده الذى يقترب من الموت، ورغم فظاظة نيلز الواضحة، وميوله العدوانية ضد ماريا، وكأنه ينتقم منها جراء ما فعله معه المرض، إلا أن ماريا تتعاطف بشدة مع نيلز، وتتيح له فرصة رؤية ابنه للمرة الأخيرة. المفاجأة الأكبر فى انحياز ماريا لنيلز فى فكرته بالتخلص من حياته، بينما كنا نظن أنها وافقت على مرافقته، لكى تجعله يتراجع عن فكرته. فى سويسرا، يدخل نيلز مركز الموت الرحيم، المكان والأشخاص يتصرفون ببساطة كأنهم يستقبلون مريضا فى مستشفى. من الواضح أن ماريا قد أحبت نيلز الذى ما زال مصمما على الموت. فى مشهد طويل هام، تجلس ماريا وهى تراقب نيلز الذى يشرب أولا سائلا يمنع مقاومة الجسم للدواء القاتل، ثم يشرب الدواء الذى سيجعله نائما، وبعد لحظات، ينسحب الأوكسجين من الجسم، فيموت نيلز، يحدث ذلك على خلفية الموسيقى التى أحضرها نيلز معه. فى النهاية تظهر ماريا وهى تلقى بنفسها فى الماء، لا نستطيع أن نجزم بأنها تفكر فى الانتحار، أو أن ما فعلته هو محاولة رمزية للعودة إلى دوامة الحياة بعد أن تغيرت، وبعد أن أصبحت قادرة على الفعل. الحقيقة أن مشكلة سيناريو الفيلم فى أنه بينما تبدو شخصية نيلز المكتئب والعاجز واليائس والعدوانى واضحة وقوية، فإن شخصية الممرضة ماريا غامضة وضبابية، وغير مفهومة التصرفات، إذا من الصعب أن تتحول ممرضة أنقذت مريضها من الانتحار، إلى مرافقة تحضر جلسة موته الرحيم، والتى يحرص القائمون على المركز على تصويرها صوتا وصورة. لم تكن هناك أيضا مقدمات لتعلّق ماريا العاطفى بالمريض نيلز، ولم نفهم بالضبط هل مشكلتها فى الوحدة، أم فى الهجرة، أم فى فشلها فى حياتها الخاصة، وحتى لو استنتجنا بكثير من الجهد شيئا ما عن ماريا، فإن ذلك لا يكفى لتتحول من تشجيع نيلز على الصمود، بسبب ما قد يكتشف مستقبلا لعلاج حالته، إلى مباركة اختياره للموت. ولكن الفيلم يمتلك عناصر فنية متفوقة حقا مثل أداء ممثله الرئيس بيتر بلوجبرج فى دور نيلز الصعب والمؤثر، إنه شخصية عاجزة جسديا، ومعقدة نفسيا فى نفس الوقت، كما أن ليزا كارلهد كانت رائعة فى فى مشهد جلسة الموت الرحيم، ولكنها ظلت حائرة عموما بسبب الطريقة المشوشة التى رسمت بها الشخصية. كانت لها مشاهد جيدة، ولكنها لم تستطع أن تمنح الشخصية شكلا مفهوما. من العناصر المميزة أيضا التصوير، وقد اختار المخرج اللقطات القريبة جدا التى تكشف عن أدق التعبيرات فى وجوه منهكة ومتعبة، وغلب اللون الرمادى والأبيض على معظم المشاهد، بينما لجأ المخرج إلى اللون الأحمر فى لحظات محاولة نيلز استعادة الحياة فى شوارع هامبورج الخلفية، ولكنه لم ينجح فى ذلك. الفيلم جعل من اختيار الموت الرحيم موقفا إيجابيا، بينما فيلم "الرعاية المنزلية" يمجّد طاقة الحياة حتى ونحن نقترب من الموت، وجهان للعبة الحياة والموت فى فيلمين مختلفين، يدفعان المتفرج للتأمل. لعل سحر السينما والفن عموما فى هذه الرؤى المتعارضة، والمشاهد حرّ فى تحديد موقفه، وعليه أن يختار إما أن يكون فلاستا المتفائلة، أو أن يصبح نيلز اليائس؟