الفيلم الدنماركى «بين ذراعيك» (In Your Arms)، الذي يعرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة ال37، أنشودة إنسانية تعزف على مفاهيم خاصة جدا لنظرة الإنسان للحياة، من خلال اتفاق غير معلن بين رجل وامرأة، بحيث تعطيه هى فرصة الرحيل، بينما يمنحها هو قبلة الحياة. إنه تجربة إنسانية مفعمة بالمشاعر المتناقضة من الخوف والقلق والإقدام والإقحام، والرغبة فى الحياة والتمتع، والحنين الجارف الى الموت، إنها مواجهة بين المشاعر المليئة بالرومانسية والرغبة فى العطاء المطلق بلا مقابل، والجنس الخشن القادر على تدمير الإنسان. إنه رؤية عن قرب بكل التفاصيل الموجعة لما يطلق عليه «الموت الرحيم»، والذى اشتهرت به سويسرا بل إن هناك نوعا من السياحة مزدهرة جدا هناك (سياحة الانتحار)، وللأسف فإن المتخصصين في «القتل الرحيم» لا يعرفون أنفسهم كشركات، بل يضعون أنشطتهم في صورة منظمات تضم أعضاء ممن يرغبون في الانتحار، يصل أعضاء بعضها إلى 50 ألف شخص، وهو ما نراه بوضوح من خلال أحداث الفيلم.. ويعتمد القتل الرحيم على مساعدة المصابين بالأمراض المستعصية غير القابلة للشفاء على التخلص من حياتهم إن أرادوا ذلك، ولا يتم إلا للمصابين بمرض عضال وليس للذين يشعرون باليأس والملل من الحياة» ومن أشهر الاعمال التى قدمت مؤخرا عن تلك الفكرة الفيلم البلجيكي «اقتلني من فضلك» الكوميدي الحائز علي جائزة «مارك أوريل» الذهبية وهى أكبر جوائز مهرجان روما للسينما. ويعالج الفيلم قضية القتل الرحيم من خلال قصة طبيب يريد أن يجعل من الانتحار مجرد فعل طبي.. أما الأجمل على الاطلاق فى تلك النوعية من الافلام التى تناولت الموت الرحيم فكان الفيلم الفرنسي «Amour» الحب» الذي يتناول قصة حياة زوجين مسنين يضطر الزوج فى النهاية الى إنهاء حياة زوجته التى تعانى من الألم ولا أمل فى شفائها.. وعامة أيا كانت الأحاسيس والمشاعر حول الحق في الموت بكرامة، فإنه ليس من السهل على المشاهد، خاصة فى البلاد العربية ذات المخزون الدينى تقبل الفكرة حتى ولو دراميا من خلال شخصية وهمية كما فى الفيلم الدنماركي «بين ذراعيك». والفيلم يبدأ وينتهى بنفس المشهد للبطلة متوحدة مع الطبيعة الحزينة تقف شاردة حزينة يتساقط الثلج على معطفها،بينما تضع قدميها عارية فى مياه البحيرة.. ومع المشهد الأول فى الفيلم نستمع الى حوار بين اثنين: (لا أستطيع أن أطير.. لا أستطيع أن أفعل أى شىء خاص مثل أى إنسان، وأنا محبوس بين جدران شقتى، وأرى الدنيا من خلال النافذة.. البنات مجنونات بى.. هذا صوت حلمك.. هذا حلمى الى امل أن يعود لى).. وما هى إلا ثوان ليظهرا على الشاشة أصحاب الحوار الممرضة ماريا وأحد المرضى.. ليصبح هذا الحوار بمثابة المادة القاتمة، ولكنها أيضا قصة إنسانية قاهرة مع كمية مناسبة من الميلودراما.. تتعاقب المشاهد سريعة بعد ذلك لتنقلك الى بيتها بكل تفاصيله المملة من الصقيع المحيط بجدرانه، لنرى ماريا الممرضة الشابة. التى تعيش حياة منعزلة في كوبنهاجن، ولكنها ترنو إلى الحرية والخلاص العاطفي. وماريا انسانة ضعيفة، حزينة، تعيش وحيدة تأكل رقائق الذرة، تشاركها الحياة قطتها، تكرس حياتها لهؤلاء المرضى فى أحد مراكز الرعاية، الذين لا يستطيعون رعاية أنفسهم، ويشير السيناريو الى تفصيلة لشخصيتها العاشقة للعذاب من خلال وضع يديها أسفل صنبور المياه الساخنة بينما تنظر للمرآة وعلى وجهها علامات الحزن والألم.. على الجانب الاخر نجد ان ماريا لديها علاقة إنسانية خاصة مع «نيلز»، وهو الشاب الذي يعاني من مرض عضال، ويعيش في دار الرعاية، التى تعمل بها ماريا، إنه حبيس المرض الذى يأكل جسده، والحزن والشعور بالعجز الذى ينمو بداخله ويتحول إلى رغبة حاسمة للخلاص من حياته عن طريق اختيار الموت الرحيم، و«نيلز» شخصية مركبة فبمقدار عشقه لاسطوانات الموسيقى الكلاسيكية إلا أنه يجد متعته أحيانا فى تعليقاته اللاذعة التى تجرح الآخرين. يقرر «نيلز» معاقبة المحيطين به الرافضين مساعدته فى الذهاب لسويسرا بمحاولته الانتحار بقطع رسغ يديه بزجاج الكوب الذى تركته معه ماريا ليشرب.. عند قدوم الأم الى المستشفى نكتشف أنه دفع أمه دفعا الى انهاء إجراءات ذهابه الى سويسرا فى إحدى تلك الجمعيات المساعدة للموت الرحيم، وهو الأمر الذى يرفضه أخوه تماما. تبدو مشاعر واحاسيس ماريا تجاهه من خلال الزهور التى تحملها له، ودخولها غرفته بعدما نقل للعناية المركزة وجلوسها على كرسيه المتحرك، واحتضان قميصه، يعقب ذلك مشهد عناق مع الأم التى تعطيها كل الأوراق الخاصة بجمعية الموت الرحيم وتطلب منها الذهاب معه الى سويسرا، لأنها غير قادرة على تحمل مرافقة ابنها تلك الرحلة، ولكن ماريا تحسم أمرها بالسفر بعد مشهد ممارسة جنس خشنة مع صديقها، ذلك المشهد الذى يبدو فيه التعامل اللا إنسانى والمفتقر الى أى مشاعر إنسانية. على محطة القطار ولحظات الوداع بين «نيلز» وأمه وأخيه عبارة عن حوار بلا كلمات وكأن المشاعر المتدفقة بينهم حولت ذبذبات الصوت للكلمات الى فيض من الأحاسيس.. وفى رحلة القطار هناك حالة من التواصل بين الاثنين كل واحد فيهما يعلن عن معرفته بالآخر أحيانا والاصرار على الاحتفاظ بخصوصيته. ولكن أجمل تشبيه من «نيلز» عن ماريا: (عندما تنظرين فى المرآة لا تجدين ما تقولين لنفسك).. الرحلة الى سويسرا بالقطار تخللتها مشاهد لماريا وهى ترقص سعيدة أوتنظر للمرآة وهى فى قمة التعاسة تلك المشاهد نراها من خلال رؤية ماريا وهى تنظر عبر نوافذ القطار.. يقرر «نيلز» زيارة سريعة الى هامبورج لكى يشرب البيرة وهناك يتذكر أيامه السابقة فى المدينة عندما عمل بها لمدة خمس سنوات.. يمتد الحوار بينهما ليكشف «نيلز» عن تعاسة ماريا فى حياتها الجنسية.. وفجأة يقابل «نيلز» زوجته السابقة التى ترفض منحه دقائق للكلام معها. ورغم رغبته فى الرحيل من المدينة إلا أنه يذهب مع ماريا الى الفندق حيث يطلب منها وضعه فى الفراش على أن تذهب لترى المدينة، ومع إصرارها على خروجه معها يقرر الذهاب الى منطقة الضوء الأحمر فى هامبورج حيث أماكن الاستربيتيز ليصبح دخوله فيها بمثابة المكاشفة لكليهما حول أحاسيسهما الجنسية ورفضهما لهذا النوع الخالى من المشاعر والمعتمد على الغريزة . وعند عودتهما للفندق تتركه وتذهب لحضور عزف موسيقى للجارسون الذى قابلته فى الصباح وأعطاها دعوة لحضور حفلته، وتنشأ بينهما علاقة جنسية رومانسية. وهنا تبدأ الاحداث الفارقة فى الفيلم بين ماريا ونيلز ليصبح كلاهما الأقرب لبعضهما والأقرب الى أحلامهما حول الحياة والموت خاصة عندما ترى ماريا فى الصباح «نيلز» المصب بالسلس البولى فتبدأ فى تنظيفه وتعطيه أوامر كأنه طفل، فيرفض ثم تبدأ الرحلة الاخيرة الى سويسرا حيث يقدم المخرج مشهدا لاصطدام حيوان الآيل بسيارتهما وإصابته ولحظات الألم التى يعيشها فلا تجد ماريا وسيلة سوى تحطيم رأسه بحجر لتريحه من الالم وكأنها رسالة ضمنية على موافقتها لما ستقوم به من مساعدته على الموت.. وتجيء اللحظات الأكثر شجنا وألما والفياضة بالمشاعر الإنسانية بعدما يلتقيا بالطبيب والعاملين بمؤسسة الموت الرحيم حيث يشرح لهما الطريقة، والتى تتم على ثلاث مراحل، يشرب فيها ثلاثة أكوب يذهب بعدها الى الموت، وعند الموافقة على الطريقة يمنحان الليلة الاخيرة التى كانت بمثابة التتويج لقصة الحب الحزينة غير التقليدية فهما يرقصان سويا وتعانقا عناقا أبديا على أنغام أغنية رومانسية.. وجاءت لحظة الرحيل غلب عليها عناق بالروح والعيون وأعقبها قفز ماريا فى البحيرة عارية وكأنها تتخلص من كل أحزانها وتغتسل منها. فيلم «بين ذراعيك» حاصل على جائزة أفضل فيلم فى مهرجان جوتنبرج السينمائي 2015.. والفيلم بطولة Lisa Carlehed المولدة فى 15 أغسطس 1971 فى جوتنبرج وشاركها البطولة Peter Plaugborg المولودة فى 12 أبريل 1980 وهو العمل الاول للمخرج الفرنسى الأصل Samano AY. Sahlstrøm وهو كاتب السيناريو، ومقيم فى الدنمارك.