زارنى فى مكتبى ملحق عسكرى رفيع المستوى لإحدى السفارات الآسيوية الكبرى فى القاهرة، وأكد لى أن لديه أسئلة عديدة تُحيرِّه وتُحيّر بعض المعلقين السياسيين والعسكريين فى بلده، وسأل فورا هل لك أن تقول لى ما الذى يدفع البحرية المصرية للذهاب إلى باب المندب؟ وهل للأمر علاقة بقرار القمة العربية بتكوين قوة عربية عسكرية مشتركة، أم أنهما أمران مختلفان؟ وكانت إجابتى مقتضبة ومباشرة معا، وعلى نحو أكد أن ذهاب البحرية المصرية لباب المندب والمشاركة فى عملية عاصفة الحزم لها أكثر من سبب، منها المشاركة فى عمل عسكرى عربى جماعى لحماية كيان اليمن من الانقسام والتشرذم.وبالتالي استمراره ككيان موحَّد تحت قيادة شرعية معترف بها دوليا، وثانيا حماية مصالح مصرية وعربية ودولية فى آن واحد تتعلق بحرية الملاحة فى مضيق باب المندب، وهكذا فإننا فى مصر وفى المملكة العربية السعودية نصون المصالح الدولية برمتها جنبًا إلى جنب مصالحنا الذاتية فى الأمن وفى إبعاد شبح النفوذ الإيرانى القائم على تصدير الثورة والتدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى. وثالثا أننا نوجه رسالة لكل قوة على الأرض العربية قد تغتر بنفسها وتريد أن تعيث فسادًا أو أن تكون منفذًا لنفوذ أجنبى بأنها ستعاقب ولن نسمح لها بمثل هذا العبث. واستطردت قائلا أما القوة العربية المشتركة فهى فكرة مصرية طرحها الرئيس السيسى قبل حوالى شهرين، حين ربط ضرورة التصدى للتهديدات الجديدة كالإرهاب وتنظيمات العنف العابرة للحدود والهادفة إثارة الفوضى فى البلاد العربية، وكذلك مواجهة التدخلات الإقليمية التى وصلت إلى مستوى عال جدًا فى شئون بعض الدول العربية وبما يهدد سيادتها ووجودها وتماسكها، وذلك من خلال عمل عسكرى جماعى يستند إلى اتفاقية الدفاع العربى المشترك للعام 1950، لا يفتئت على شرعية ولا سيادة أحد، وتكون بمثابة قوة ردع لمن يفكر فى الاعتداء علينا، وقوة صد لمن يبدأ الاعتداء علينا. وأشرت أيضا إلى أن عملية عاصفة الحزم، والتناغم فى الأداء بين البحرية المصرية وشقيقتها السعودية هو نتاج لعلاقات خاصة وتدريب مشترك على مدى فترة طويلة سابقة، وبما يشكِّل قاعدة متينة لبناء قوة عربية مشتركة تعرف دورها جيدًا، أما مسائل تمويل وتدريب هذه القوات فليست بذات بال لأنها ستأتى نتيجة الحوار والدراسات والتفاهمات بين رؤساء أركان الدول التى ستشارك فى هذه القوة، وهى الآن لا تقل عن سبع دول عربية ومرشحة للزيادة. عند هذا الحد من الشرح قال الملحق العسكرى الآسيوى إن بلاده كانت تنتظر مثل هذه الخطوة منذ فترة طويلة، ناصحا الدول العربية بأن تعمل على أن يكون مسرح عمليات هذه القوة العربية المشتركة هو كل المنطقة العربية، والتى يشكِّل الاستقرار فيها جزءا أصيلا من أمن بلاده ومصالحها الكبرى والمتنامية فى المنطقة، ومضيفا أن بلاده مستعدة للتعاون العسكرى مع أى بلد عربى يطلب ذلك. ولم ينس الرجل الإشارة إلى التطورات الإيجابية فى العلاقات المصرية الأمريكية والتى توجت أخيرًا بقرار الرئيس أوباما برفع التجميد عن إرسال طائرات إف 16 المقررة لمصر وعدد من الصواريخ والأسلحة والمعدات التى تحتاج إليها مصر بشده فى حربها ضد الإرهاب فى سيناء وعلى الحدود مع ليبيا، إضافة إلى تقديم مساعدات عسكرية أخرى بقيمة 1.3 مليار دولار فى ميزانية 2017 المقبلة. وهنا كانت ملاحظتى أن التطور فى الموقف الأمريكى جاء بعد فترة طويلة من تجاهل الإرادة المصرية التى أنهت حكم جماعة الإخوان الإرهابية، وأن الأمريكيين لا يبحثون إلا عن مصالحهم، وحين تبين لهم وتأكد أن مصر هى البلد المحورى فى الشرق الأوسط وأن لديها قدرة على امتصاص كل الضربات والتهديدات، وأنها تتحرك الآن فى كل اتجاه، وقيادتها الجديدة تمد ذراعيها إلى كل بلد محب للسلام والتعاون فى العالم، وأنها رفعت مستوى علاقتها الاستراتيجية مع روسيا ودول أخرى فى العالم، تغير موقف الرئيس أوباما، وهذه هى أيضا الأسباب الحقيقية وراء التغيرات الأساسية والدرامية فى مواقف عديد من البلدان مثل جنوب أفريقيا مثلا، التى كان لها موقف مضاد لمصر بعد 30 يونيو ، وإذا بها الآن مثل باقى الدول الإفريقية تنظر لمصر الجديدة نظرة احترام وإكبار، وترى فيها بلدًا رئيسيًا وعملاقا فى شمال أفريقيا، حسب وصف رئيس وكالة الأنباء الجنوب إفريقية، وأنه حان الوقت ليلتقى عملاق الشمال مع عملاق الجنوب فى القارة السوداء.وقبل عدة سنوات، وتحديدا فى العام 2005، كنت ضمن وفد إعلامى فى زيارة إلى الصين، وقتها تقابلنا مع رئيسها زيانغ زيمن، وبعد أن انتهينا من أسئلتنا الصحفية فى كل مجال تقريبا، سألنا الرجل قائلا لماذا لا يتعاون العرب فيما بينهم عسكريا، إننا نعرف أنكم كعرب تمتلكون أسلحة متطورة وجيوشا ممتازة، وتعاونها معا كفيل بأن يجعل لكم كلمة مسموعة فى عالم اليوم، وبما يساعد على تحقيق أكبر مستوى من الاستقرار الإقليمى. وقد أثارت هذه العبارة تحديدا لدينا نحن الوفد الإعلامى المصرى شجونا كثيرة، لأنها كانت ذات رسالة واضحة وهى أن العرب منقسمون رغم إمكاناتهم الكبيرة، وأنهم إن تعاونوا مع بعضهم البعض فسوف يصبح لهم شأن آخر. رسالة الرئيس الصينى كانت ببساطة أنه بدون قوة مرهوبة الجانب فلن ينصلح حال العرب، ولن تتوقف التدخلات فى شئونهم الداخلية، وأن الاعتماد على الذات هو الذى سيمنحهم الاحترام والتقدير من كل دول العالم. بعبارة أخرى أن القوى مُهاب، وأن الضعيف منبوذ وقابل للضغط والتسويف. العالم إذا لا يعترف إلا بالأقوياء أصحاب الرؤية والمكانة والحركية والقدرة على اتخاذ القرار فى اللحظة المناسبة. ونحن فى مصر عانينا كثيرا بعد 30 يونيو من تلك الرؤية المغلوطة بأننا بلا رؤية وبلا قيادة وبلا قرار، وأن من السهل على أى طرف دولى أو إقليمى أن يضع لنا الأولويات ويحدد لنا المسار والبوصلة، وكأننا بلا عقل أو إرادة على الإطلاق. والآن نستطيع الجهر بأعلى صوت ممكن أننا كمصريين لسنا كذلك وأن كثيرا من القيادات العربية الراهنة هى قيادات قرار ورؤية، وما يجرى فى عاصفة الحزم دليل على أن البدء بهذه العملية فى هذا التوقيت فيه تحسب شديد بدلًا من ترك الأمور على عواهنها فى اليمن إلى أن تأتى لحظة يضيع فيها اليمن وتضيع فيها المصالح العربية برمتها. إنها عملية عسكرية ذات طابع استراتيجى بعيد المدى، والبدء فيها قبل القمة العربية بيومين كانت بمثابة رسالة قوية بأن الفكرة المصرية بإنشاء قوة عربية مشتركة هى فكرة سديدة ذات أبعاد بعيدة المدى، وفى الوقت نفسه مليئة بالرسائل السياسية المباشرة. فالعرب لم يعد لديهم سوى البدء فورا فى الاعتماد على أنفسهم وعلى طاقاتهم، كما أن الجيران من غير العرب عليهم أن يعيدوا حساباتهم وأن يدركوا أن هذه المنطقة ليست بلا صاحب، وليست أرضا خلاء مهجورة، فلها أصحابها الذين يستطيعون الدفاع عنها ضد أى طرف كان. نحن العرب مطالبون باليقظة والتخلص من الكثير من الحساسيات الذاتية والبينية التى كانت تقف حائلا ضد تطوير عملنا العربى المشترك فى كافة المجالات طوال العقود السبعة الماضية. ومطلوب أيضا أن تكون لدينا جميعا رؤية واضحة قوامها أن التحديات الراهنة والتهديدات التى تحيط بالمنطقة العربية من كل اتجاه لا تفرِّق بين بلد وآخر، بل هى موجهة لنا جميعا كأمة عربية وكبلدان عربية، وأن هدفها هو تفتيت هذه الأمة وتحويلها إلى كيانات صغيرة لا حول لها ولا قوة. ولكل هذه الأسباب التى لا يختلف عليها أحد، فلا مفر من المواجهة الجماعية القائمة على أسس رشيدة تُعلى من التضامن، وتنظر إلى المستقبل بتفكير يتناسب مع الواقع الراهن وتحدياته وصعوباته وفرصه. والمعروف أن العلاقات بين الدول تصل إلى أعلى مراحلها حين تشترك معا فى خوض حرب ضد عدو مشترك، وتستمر هكذا حين يضمها حلف أو تعاون عسكرى مقنن ومستمر وقابل للتطور والتوسع. وفى تاريخنا العربى ومضات مضيئة من التعاون العسكرى إبان حرب أكتوبر 1973 وفى أثناء حرب تحرير الكويت 1990، ولكنها توقفت بمجرد توقف العمليات العسكرية، وذهب كل طرف إلى حاله. الآن يبدو الوضع مختلفا تماما، فما أن تنتهى العمليات العسكرية فى اليمن، ويستعيد حالته الطبيعية تحت ظلال الشرعية، سيذهب الجميع للتدارس فى كيفية بناء القوة المشتركة، وستكون فى ذهن وعقل كل طرف أن عملية اليمن هى أقرب إلى تدريب ميدانى يستدعى البناء عليه وتطويره والاستفادة من خبراته. لم يعد هناك وقت لإضاعته فيما لا يفيد أحدا، وليس هناك ترف الإفلات من المسئولية التاريخية لحماية الأمة العربية. إننا فى لحظة فارقة، إما أن نبقى كأمة عربية يحترمها القاصى والدانى وإما نواجه الضياع وقلة الاحترام.