أسبوع حافل بالأحداث والتطورات، جاءت طائرة الرئاسة من أديس أبابا بعد التوقيع فى الخرطوم على اتفاق مبادئ أسس بدوره لعلاقة جديدة بين مصر وإثيوبيا، لتحط فى مطار شرم الشيخ استعدادا للقمة العربية السادسة والعشرين، التى ستنتقل رئاستها من الكويت إلى مصر، وبينما كان وزراء الخارجية العرب يستعدون للمناقشات حول مشروعات القرارات التى ستعرض على القادة العرب، حملت الأنباء قيام طائرات سعودية مدعومة بطائرات من دول خليجية وعربية بقصف مواقع للمتمردين الحوثيين فى مواقع مختلفة من اليمن، وبوجه خاص العاصمة صنعاء ومعسكرات سيطر عليها الحوثيون بمساعدة قوات موالية للرئيس السابق على عبد الله صالح. هكذا بدأت عملية «عاصفة الحزم»، والتى استقطبت تأييدًا ومشاركة من 10 دول عربية فى مقدمتها مصر والإمارات والأردن والمغرب، وهكذا تشكل أول تحالف عربى تقوده السعودية دفاعًا عن الشرعية فى اليمن، وفى الآن نفسه دفاعًا عن الأمن السعودى خاصة والعربى عامة، وهكذا أيضا استعاد العرب اكتشاف اتفاقية الدفاع العربى المشترك التى وقّعتها فى عام 1950 ست دول عربية من بينها مصر والسعودية والعراق، وهو اكتشاف يمكن تلخيصه فى أن العرب أدركوا فى لحظة خطيرة يمرون بها جميعًا بدون استثناء أن لديهم القرارات والاتفاقات التى سبق بها الأولون، وفيها ما يساعدهم على حماية أنفسهم إن توافرت لديهم إرادة تحويل الأقوال أو الكلمات المكتوبة إلى سياسات على الأرض. إنها أشبه باللحظة التى ينطلق فيها نفير الاستيقاظ من ليل بهيم على بشائر صباح جديد.. إنها «نوبة صحيان» للأمن القومى العربى تأخرت كثيرًا، ولكنها أخيرًا جاءت لتدق الأبواب المغلقة لعل هناك من يحول الكلمات إلى فعل. نوبه الصحيان تلك ليست نهاية المطاف، بل هى بدايته، وهنا أهمية عنصر الإرادة السياسية المدركة لأهمية تشكيل قوة عربية للتدخل السريع لحماية أية دولة تتعرض لخطر داهم أو اعتداءات من جماعات ارهابية عابرة للحدود، أو تدخلات خارجية أو حدوث فوضى وانفلات للأوضاع، أو تمرد داخلى يستعين بقوة خارجية لقلب الأمور رأسًا على عقب، ورغم أن القمة اتخذت قرارا بتشكيل تلك القوة ووضعته فى صورة اختيارية للدول فإن المسألة لم تنته بعد، والأمور المتعلقة بالجوانب التنفيذية تحتاج إلى لقاءات وإجراء بحوث ودراسات حتى تخرج تلك القوة مكتملة الأركان ومحددة المهام ومعروف قواعد اشتباكها مع التهديدات المختلفة ومن يمول وكيف سيكون التمويل، وحجم التسليح وطبيعة القيادة، وبحيث تمثل فى النهاية عنصر ردع عربى فعال لكل من تسول له نفسه إثارة الفوضى فى أى بقعة عربية. المهم - وكما يذكر القول المأثور- فإن العجلة دارت، والخطوة الأولى اتخذت بالفعل، وما علينا سوى متابعة الإجراءات، والمهم هنا أيضًا أن يتم تشكيل قوة ردع عربية أيًا كان الاسم الذى سيتم اختياره لها، أن يتم تحت مظلة جامعة الدول العربية وفقا لميثاقها ولاتفاقيات رئيسية تمثل الإطار الجامع والشامل والمحدد لطبيعة عمل الجامعة العربية، وقد يقول قائل إن الجامعة فشلت فى إحراز أى تقدم ملموس فى الكثير من القضايا والأزمات التى مرت بالعالم العربي، وإن القضية الفلسطينية هى خير شاهد على فشل الجامعة، فكيف لها أن تنجح فى أمر تعتبره الدول الأعضاء قضية ذات حساسية خاصة، وهو التعاون العسكرى تحت قيادة عربية والعمل بعيدًا عن الإطار الجغرافى للدولة؟. وهو سؤال مشروع ولكن لابد من ضبط الأمر أولا قبل الإجابة عنه تفصيلا. فالجامعه كمنظمة إقليمية تُعد أسيرة لقدرات وإرادات أعضائها، فإن اتفقت تلك الإرادات على فعل شىء، تقوم الجامعة بتنفيذه والعكس صحيح، وإرادات الأعضاء تحكمها فى الواقع اعتبارات عديدة، وفى حالتنا العربية درج الباحثون على ربط أداء الجامعة صعودًا وهبوطًا بمدى توافق أو نشوء تكتل قيادى بين عدد من الدول العربية الكبرى يؤيد ويقود فعلا معينا. وكما يعرف الجميع فإن غياب مصر لمدة تقترب من العقد فى سنوات الثمانينات من القرن الماضى، ثم خروج العراق من المنظومة العربية نتيجة الحصار الذى استنفد قدراته وصولا إلى حرب تحرير الكويت، وما تبع ذلك بعد 13 عاما من احتلال أمريكى بريطانى مباشر، ثم انهيار سوريا وسقوط ليبيا فى براثن الفوضى بعد سقوط نظام القذافى، كل ذلك أثر على دور الجامعة وعلى إدراك أهمية وجودها لدى الرأى العام العربى. وإذا عدنا للفترة اللاحقة مباشرة لسقوط العراق تحت وطأة الاحتلال الأمريكى لوجدنا سيلا من المطالبات غير الرصينة بإنهاء وجود الجامعة العربية والبحث عن منظمة إقليمية جديدة يجتمع حولها العرب، لكن العقلاء من العرب وقفوا ضد هذه المطالب، ورأوا فيها امتدادًا لمخططات الولاياتالمتحدة الهادفة إلى تمزيق العالم العربى وإغراقه فى فوضى عارمة تسقط فيها الدول والكيانات العربية واحدة تلو الأخرى، وهكذا نجت الجامعة العربية من مصير مجهول، وبقيت كبيت للعرب وكرمز لوحدة هذه الأمة رغم عدم إيمان بعض أطرافها بأهمية وضرورة تلك الوحدة. هذه التطورات ليست ببعيدة، ونرى تأثيراتها ونتائجها السلبية على كل المنطقة العربية وعلى كل الدول دون استثناء مهما ادعى البعض أنه ناج من تداعياتها، ولذا فإن العودة مرة أخرى إلى اتفاقية الدفاع العربى للتنقيب فى موادها بحثا عن أساس شرعى وعروبى لتشكيل تلك القوة العربية هو فى الواقع إحياء لدور الجامعة، واعتراف بأنها ليست بيتا للعرب وحسب، أو منتدى يتداولون فيه بعض الآراء السياسية، وإنما هى جامعة تضمهم وتربط بينهم وتوثق علاقاتهم وتوفر لكل منهم مظلة أمن وحماية إن أرادوا ذلك. إن البيئة العربية والإقليمية وما تموج فيهما من مخاطر عديدة لا تمثل تفسيرًا وحيدًا ل «نوبة الصحيان» الخاصة بالأمن العربى، فالعديد من هذه المخاطر كان موجودًا منذ فترة، وكثيرًا ما نادينا بأن يصحو العالم العربى من غفوته، وأن يتدارك خطورة ترك الحبل على الغارب، وأن يدرك بأن المخاطر التى تهدد سوريا أو العراق أو ليبيا أو أى بلد عربى، ليست مخاطر تخص هذا البلد وحسب، ولكنها تهدد أيضًا كل الدول العربية وكل المنظومة العربية. فإلى جانب هذه المخاطر، يمكن أن نرصد صحوة فى دور مصر العروبى الساعى لإيقاظ الأمة العربية، وإلى استنهاض القدرات العربية لكى تتكامل فيما بينها لصالح كل العرب بدون تفرقة، وهى صحوة التقت مع إرادة سياسية عروبية فى العديد من الدول العربية وفى مقدمتها المملكة السعودية والمملكة الأردنية والكويت والإمارات، ومن ثم تشكلت كتلة قيادة لعمل عربى مشترك بطريقة جديدة تتناسب مع طبيعة التحديات والمخاطر المتجددة، خاصة أن التحولات التى مرت بها السياسة الأمريكية فى عهد الرئيس أوباما، والتى قامت على الابتعاد تدريجيا عن هموم وقضايا المنطقة العربية وتركها تغوص فى مشكلاتها الذاتية إلى حد الانتحار، والبحث عن فاعل إقليمى جديد يمكن أن يشكل حارسًا للمصالح الأمريكية فى المنطقة بعيدًا عن الأصدقاء والحلفاء التقليديين الذين تعاونوا مع واشنطن طوال العقود الستة الماضية، وهكذا تجسدت بوضوح شديد مقولة إن «المتغطى بأمريكا عريان»، وهو ما دفع العواصم العربية الكبرى للتحول إلى سياسة أمنية أقرب ما تكون اعتمادًا على الذات، وبصورة جماعية وتحت مظلة الجامعة العربية الأم. وفى حدود معينة يمكن أن نرى حملة عاصفة الحزم التى تقودها السعودية وتشارك فيها 10 دول عربية، والهادفة إلى دعم الشرعية فى اليمن، وتحجيم التمرد الحوثى، وإعادة التوازن على الأرض لصالح مؤسسات الدولة ورئيسها الشرعى عبد ربه منصور هادى، وإبعاد النفوذ الإيرانى عن اليمن، وحماية حرية الملاحة الدولية فى مضيق باب المندب، يمكن أن نراها بمثابة تطبيق أولى لمبدأ الدفاع العربى الجماعى الذاتى، آخذين فى الاعتبار أنها تحالف مبنى أساسًا لمواجهة ظرف طارئ وخطير فى بلد عربى مهم، وبالتالى فإن التحالف سيُعد غير موجودٍ بمجرد تحقيق أهدافه.. إلا أن تجربة التحالف ستوفر أساسًا جيدًا للتعاون العسكرى العربى بصورة فعلية وليست افتراضية وستكون بمثابة خبرة فعلية وتدريب عملى لكيفية تعاون قوات عسكرية لأكثر من دولة لإنجاز مهمة عسكرية محددة، ولحماية دولة عربية من السقوط فى براثن الفوضى والإرهاب. وهى خبرات ثمينة ستؤخذ فى الاعتبار عند تشكيل القوة العربية المشتركة. لقد شكلت القمة العربية بداية لصحوة عربية، نأمل أن تستمر ونأمل أن تتراكم خبرات التعاون العربى أمنيًا وعسكريًا واقتصاديًا وصولا إلى منظومة جديدة من التفاعلات العربية التى تؤسس بدورها إلى جامعة عربية فعالة وذات مصداقية.