لكن ماذا نقصد بتجديد الخطاب الثقافى؟.. إن الإجابة عن هذا السؤال تجعلنا نشخص الحالة الثقافية اليوم بسلبياتها وإيجابياتها للوصول إلى خطاب ثقافى يمثل دعامة للخطاب الدينى. فالثقافة فى مجتمعنا مرت بظروف محبطة حقًا جعلت الحديث فيها أو عنها من الموبقات والمحرمات.. فأنت مثقف أى لك رأى.. ولابد أن يكون مخالفًا أو قاسيًا أو معارضا فى مجتمع سياسى لا يقبل ولا يرضى بهذه الحالة.. وقد بدأت هذه الصورة المحبطة منذ نكسة 1967، حيث فقد المثقف حلمه الذى بدأه مع ثورة 1952- ولم يحاول بعد- أن يستعيده أو يعدّل من عناصره ليته يقيم له منارته مرة أخرى.. بل استسلم المثقف للأسف لهذا الإحباط وظل يبكى على حاله وحال ثقافته حتى صار البكاء والنواح والصورة القاتمة هى ما ترضى قلمه وفكره. وتمر الأيام.. ويحاول المثقف كذلك استعادة ثقافته بعد عبور 1973.. ولكنه وجه بالانفتاح الثقافى والاقتصادى.. وسادت ظاهرة خطيرة فى المجتمع وهى ظاهرة الغزو الثقافى التى سمحت للثقافة الغربية أن تخترق حصار المجتمع الثقافى والدينى.. فتمثل هذا الغزو فى تلك القشور التى بدت فى الملبس والمأكل وأسلوب الحديث بلغات أجنبية.. وزاد الطين بلة أن لوحت أمريكا بالمعونة الأمريكية فى مجال نشر كتب بعينها تبث ثقافة مدروسة تهدم جدران ثقافتنا وفكرنا الدينى.. والتى استفاد منها بعض الناشرين- ماديا- وبثوا سموم هذه الكتب- أو بعضها- فى عقول أبنائنا فى المدارس. وقد استهدف الغزو الثقافى طبقات المجتمع المختلفة.. فزرع القلق والحيرة فى فهم التاريخ الإسلامى.. وأسرع بعض الكتاب إلى تأكيد اغتيال هذا التاريخ.. بحيث تهتز كل ركائز اليقين بسحابات من الشك والإحباط. وظهرت فى الساحة أفكار ضد العروبة والإسلام تذكرنا بظاهرة الشعوبية التى كان عليها المجتمع العربى فى العصر الأموى واستفحلت فى العصر العباسى.. وتلك الأفكار تجد من يعتنقها باسم الحرية الثقافية وعدم ذكر المظاهر الإيجابية. كما لجأ الكتاب إلى الدخول فى قضايا فرعية ينشغل بها القارئ عن قضايا المجتمع وساعد على ذلك وسائل الإعلام المختلفة.. فسادت ظاهرة الإلهاء الإعلامى حتى إن المواطن المصرى لم يعد يشعر بانتمائه إلى وطنه أو ثقافته.. وساعد على ذلك أيضا إغلاق البرامج الثقافية فى الإذاعة والتليفزيون وتقلص مساحات الثقافة والإبداع فى الصحف والمجلات. ولابد أن مثل هذه الحالة قد انعكست على عقول المواطنين.. فراحت تبحث عن أفكار أخرى تملأ فراغ العقول.. فوجدت ذلك فى الفتاوى المتشددة.. وفى الأغانى الهابطة.. وفى لغة ملتوية على الألسنة نصفها أو أكثر مفردات أجنبية وسوقية أحيانا.. وفى أعمال أدبية تافهة تخاطب الغرائز.. وتعنى بالجنس والخروج على المألوف بحجة الحرية والتمرد.. وفى ظاهرة الإلحاد وإنكار الأديان.. بل إنكار الخالق نفسه.. وصار العقل مرتكزا على وسائل التكنولوجية الحديثة فأسلم نفسه لها وبدأ يهيم فى عالم افتراضى كأنه يهرب من حقيقة ذاته المحبطة. والآن- وبعد ثورتين عظيمتين- غيرت المسار السياسى وانعكست على مظاهر الحياة جميعا.. ألا يصح أن يكن لنا استراتيجية لمواجهة هذه الحالة المتردية من الثقافة، والتى تقوم فى تصورنا على تحقيق (الأمن الثقافى) وذلك بمقاومة العناصر السلبية القادمة لنا من الثقافات الأخرى.. مع الاحتفاظ بالتواصل مع جوهر هذه الثقافات.. من أجل الحفاظ على هويتنا الثقافية التى تقوم على مقومات الثقافة العربية من لغة ودين وحضارة وتاريخ وحاضر ومستقبل.. واكتشاف تلك القدرات الكامنة فى عناصرها وتحويل العلاقة من علاقة تابعة للثقافات الأخرى إلى علاقة حوار ومشاركة فعالة.. إذن نحن فى حاجة إلى خطة ثقافية تشمل مناحى الحياة تستطيع أن تكون دعامة حقيقية لتجديد الخطاب الدينى.. وهذه الخطة تؤكد أن الثقافة ليست للنخبة.. بل للشعب والمجتمع جميعه.. ولمواطن المدينة والريف.. ولكل من يعيش على أرض مصر مهما تنوعت واختلفت عقائدهم ومستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية أى أن الثقافة ينبغى أن تكون للجميع، لأنها حق بحكم الدستور والقانون. ومن ثم فإن ثقافة المجتمع هى التى تميزه عن ثقافة أى مجتمع آخر.. وكما كانت الثقافة الإسلامية فى القرون الأولى هى التى تربط بين أطراف الأمة.. فعلينا أن يكون للثقافة والمثقفين دور إيجابى فى إحياء الخطاب الدينى على أسس مستنيرة معاصرة تقوم على قومية الثقافة وحرية التعبير فى إطار المسئولية.. وحقوق المواطنة.. والاستفادة من الكفاءات والقدرات العلمية والبحث العلمى.. والعمل دائما على تحديث عناصر الثقافة بمعنى تثبيت الأقدام على تراث عريق والنظر إلى الحاضر والمستقبل باستيعاب تيارات العصر ومواكبة التحولات الإقليمية والعالمية والتفاعل معها. وهكذا يرتبط الخطاب الدينى بالخطاب الثقافى.. حيث يتحدد دور الثقافة فى شحذ العقول وتغذيتها بأساليب التلقى الإيجابية وبث روح الحوار الذى يصل إلى الاتفاق أو الاختلاف من أجل تكوين عقل ناضج يستطيع أن يتلقى عناصر التطوير فى الخطاب الدينى بفكر مستنير يقبل معايشة العصر.. ويقدر تراث الماضى.. ويتفاعل مع كل جديد إنسانى.. ولن يتحقق ذلك بغير مشاركة فاعلة من المؤسسات الثقافية والتعليمية والشبابية المتصلة اتصالا حقيقيا بفكر المواطن. يقول المهاتما غاندى: لا أحب أن تحجب بيتى الحوائط العالية ولا النوافذ أن تغلق دون الهواء النقى.. لكننى لا أحب أن تنتزع قدماى من بيتى لأعيش فى بيوت الآخرين طفيليا أو متسولا أو مستبعدا..