الإعلام سلاح ذو حدين، من الممكن أن يكون سلاحا لمحاربة الإرهاب، ومن الممكن أيضا أن يكون سلاحا فى يد الإرهاب ويعمل لتضليل الناس وتقديم الإرهاب لهم على عكس حقيقته بحيث يبدو وكأنه جهاد فى سبيل الله، أو دفاع عن حقوق المظلومين، أو وسيلة لنشر الديمقراطية. الإعلام سلاح فى يد من يستخدمه، إن كان من يستخدمه مصلحا فهو إعلام إصلاحى، وإن كان من يستخدمه مفسدا فهو إعلام الفساد يعمل لتحسين صورة الفاسدين وإظهارهم فى مظهر أهل التقوى والصلاح. وفى لدنا وخارج بلدنا، يوجد النوعان.. إعلام الحقيقة وإعلام الكذب.. إعلام البناء وإعلام الهدم.. إعلام للشعب وإعلام ضد الشعب.. إعلام مخلص وإعلام منافق.. لدينا فى مصر، وخارج مصر، إعلام من كل لون. لكن أخطر أنواع الإعلام فى هذه المرحلة هو الإعلام الذى يروج للإرهاب بعضه يفعل ذلك بجهل أو بحسن نية، وبعضه الآخر يروج للإرهاب صراحة ويدعو الناس - فى فضائيات تبث إرسالها من دول نعرفها - يدعوهم إلى تخريب بلدهم، وقطع أرزاق إخوانهم وأبنائهم، وهدم المؤسسات والمنشآت التى تخدمهم. وأخطر من ذلك الإعلام الذى يعمل على تكوين رأى عام يساند الإرهاب ويتعاطف مع الإرهابيين، ويفعل ذلك بذكاء وحرفية وبطريقة غير مباشرة، وهؤلاء هم الذين ذكرهم الله فى كتابه حين قالوا نحن المصلحين وهم المفسدون. والقصة تبدأ بطبيعة الإرهاب فى استراجية الدول الكبرى والجماعات التى تمثل الذراع واليد الضاربة بحيث تتحدث القوى الكبرى عن الديمقراطية وحرية الشعوب وحقوق الإنسان وهى التى تمول وتسلح وتدرب وتخطط وتوفر الملاذ الآمن للإرهابيين، وقد تحول الإرهاب العالمى إلى صناعة ضخمة جدا لها قيادة عالمية - أقوى وأذكى وأكثر دهاء من قيادة عصابات المافيا - ولها جماعات وتنظيمات منتشرة فى مختلف الدول بمسميات مختلفة.. جماعات دينية.. جماعات عنصرية.. جماعات عرقية.. وغيرها كثير، وكلها فى النهاية تعمل لهدف واحد هو تحقيق مصالح القوى الكبرى العالمية. ??? دول العالم جميعها تعانى من الإرهاب وليست مصر وحدها، والأمم المتحدة والحكومات والشعوب تعقد المؤتمرات وتستخدم كل الوسائل لوقف زحف الإرهاب الذى أصبح أكثر خطورة من الحروب المعلنة، ففى الحرب العدو معروف وظاهر ووسائل الحرب معه لها قواعد ومبادئ وأخلاقيات، أما الإرهاب فهو عدو مجهول والحرب معه ليست فى ميدان محدد، ولديه مصادر تمنحه الحياة وتتدفق عليه الأموال والأسلحة بغير حساب وقادة الإرهاب الكبار أصبحوا من أكبر أغنياء العالم، وهذا طبيعى مادام الإرهاب قد أصبح صناعة وتجارة وبزنس كبير.. صدرت قرارات دولية بغرض حظر بيع الأسلحة إلى الدول التى ترعى الإرهاب ولم تنفذ بل حدث العكس وتدفقت الأسلحة بكل أنواعها على هذه الدول وعلى الجماعات والمنظمات الإرهابية.. وصدرت قرارات دولية بوضع قيود الدبلوماسيين والمؤسسات التى يشتبه فى وجود صلة لهم بالإرهاب وأيضا لم تنفذ، وصدرت قرارات دولية بمنع دخول الإرهابيين المعروفين أى المشتبه فيهم تحت ستار الهجرة أو اللجوء الدبلوماسى أو حتى تحت ستار الاستثمار وتنفيذ مشروعات.. كل ذلك لم يحقق الكثير بدليل أن الإرهاب أزداد قوة وتسليحًا وتمويلا وأصبح أقرب إلى الجيوش بعد أن كانوا عصابات لأن هناك دولا ترعى الإرهاب وتمنحه الدعم والحماية. ??? الجديد فى الموضوع هو دور الإعلام فى انتشار ودعم الإرهاب، وسبق أن أشرت إلى ما قالته أكبر صحفية أمريكية هى كاثرين جراهام حين كانت رئيسًا لمجلس إدارة صحيفتى واشنطن بوست وهيرالد تريبيون، وقالت فى محاضرة شهيرة إن جماعات الإرهاب تحصل على اهتمام مبالغ فيه بحيث أصبحت مشهورة وأصبحت مصدر خوف لدى الناس، وذلك لأنها كلما قامت بعمل إرهابى تجرى وسائل الإعلام وراءها لتقوم بدعاية مجانية بحيث تحصل هذه الجماعات على حجم إعلامى يجعلها تبدو فى نظر الرأى العام أكبر من حجمها الحقيقى مهما يكن حجمها الحقيقى. ومن الطبيعى أن تنشر وسائل الإعلام عن الحوادث الإرهابية وإلقاء الضوء على مرتكبيها وتقديم خلفية عنهم، ولكن ما يحدث هو أن الإعلام لا يقدم ذلك فى الحجم الطبيعى ويغفل حقيقة مهمة جدا هى أن الجماعات الإرهابية تحتاج إلى الإعلام، والإعلام بالنسبة لها هو الأكسيجين الذى يتنفس به ويعطيه الحياة ويساعده على تحقيق هدفه وهو نشر الخوف واليأس فى الناس، والحقيقة - كما قالت كاثرين جراهام - إن الإرهاب لا يخطف الرهائن فقط ولكنه يخطف الرهائن ويخطف الأضواء ليبدو فى عيون الناس كأنه الكائن الذى لا يقهر(!). ??? وقالت الكاتبة الأمريكية أيضا إن المبالغة فى الإعلام عن حوادث الإرهاب وعرض صور لجثث الضحايا يمثل ضغوطا على الأجهزة والمؤسسات التى تحارب الإرهاب، وكأن الإعلام يمجد الإرهاب وقد يستهوى ذلك من فى نفوسهم ضعف واستعداد للانحراف والجريمة فيتحولون إلى إرهابيين.. حقيقية أن الناس يريدون أن يعرفوا ما حدث عقب كل حادث إرهابى، ومن الضرورى أن يقدم لهم الإعلام الحقيقة، ولكن عليه أن يفعل ذلك بحذر وبدون الإفراط فى الوصف والمبالغة فى الحديث عن النتائج السلبية على المجتمع. وأخطر من كل ذلك هو أن تتسابق وسائل الإعلام فى إجراء محاورات وأحاديث مع قيادات الإرهاب ليقنعوا الناس بأنهم أصحاب قضية عادلة، وإجراء أحاديث مع الضحايا وأهلهم وتقديم جريمة زائدة عما يجب. ??? يرتكب الإعلام أكبر الأخطاء حيث ينشر معلومات يستفيد منها الإرهابيون، وينساق الإعلام وراء تقديم الإثارة وجذب الانتباه وتحقيق الانتشار فيقدم للإرهابيين ما يريدون أن يعرفوه ليستفيدوا به فى تخطيط عملياتهم التالية.. وكلما ازداد الإرهابيون ثقة فى أنفسهم وبانجازاتهم وبحثهم فى الحصول على جوائز ومكافأت ممن يتبعونهم.. وأمام هذا المهمات وراء الإرهاب وتقديم الأحداث بشكل فيه المبالغة والإثارة تجد الصحافة نفسها فى موقف صعب إما أن تجارى هذا التيار وإما أن تبدو مختلفة وعاجزة عن ملاحقة الأحداث وتخسر فى المنافسة! قد يقال إن تحجيم النشر عن حوادث الإرهاب لتأخذ الحجم الحقيقى دون زيادة أو مبالغة أو إثارة، يتعارض مع حرية الصحافة ومع حق المواطنين فى المعرفة، والحقيقة أن ذلك يعرِّض الحرية ذاتها للخطر.. حرية الناس، وحرية البلد، وحرية مؤسسات الحماية والدفاع فى العمل ضد الإرهاب بدون ضغوط. هذه الحقيقة يجب أن تكون واضحة: الإعلام هو الأكسيجين بالنسبة للإرهابيين، ومفروض أن يكون الإعلام مدافعا عن حرية الوطن والمواطن ومشاركا فى الدفاع والمواجهة.. ولا أحد يطلب عدم النشر عن حوادث الإرهاب، لأن عدم النشر سيؤدى إلى نشر الشائعات والمبالغة فيها. وعدم النشر لن يوقف الإرهاب. والمطلوب فقط التغطية الإعلامية الصادقة والأمنية وبشعور المسئولية وبالحرص على عدم تعرض الأمن القومى للخطر. المسألة لن تجد الحل فى مزيد من مواثيق الشرف الإعلامى، فالمواثيق كثيرة ولن تحل بغرض الرقابة، ولكن الحل الوحيد هو الضمير المهنى أولا، والضمير الوطنى أولا وأخيرا ومصلحة الوطن والشعب أهم ألف مرة من مصلحة وأرباح الصحيفة أو القناة التليفزيونية، وإلى كل إعلامى: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا.