ينتفض العالم بين الحين والآخر حينما يكتشف فيروسًا يصيب الإنسان.. وتتداعى كل المؤسسات العالمية فى محاولات مخلصة لمقاومة هذه الفيروسات ومحاصرتها والقضاء عليها.. وأشهر هذه الفيروسات التى يعانى منها عالم اليوم ويجتهد فى مقاومتها هو فيروس الأمية.. فهو أخطر فى تأثيره من فيروس أنفلوانزا الطيور والخنازير والإيبولا وغيرها من الفيروسات.. ولن نكون مبالغين فى ذلك ونحن نجد فيروس الأمية يصيب العقل الذى يتعلق بالوعى والمعرفة والثقافة ويعكس أثارًا سلبية على مقدرات حياتنا. وتعد مصر واحدة من تسع دول فى العالم تأثرًا بفيروس الأمية وتجىء قبل الأخير فى الدول العربية.. وهذا ما أعلنه أخيرًا الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء.. فهو يذكر أن 17 مليون نسمة فى مصر أميون وأن محافظة الفيوم تتصدر قائمة المحافظات فى نسبة الأعلى أمية وأوضح أن الجهاز فى تقريره الذى أصدره أخيرًا بمناسبة اليوم العالمى للأمية أن ال 17 مليون أمى فى الفئة العمرية من 10 سنوات فأكثر.. ومنهم 10.9 مليون نسمة من الإناث.. مشيرًا إلى أعلى معدلات للأمية فى محافظات الوجه القبلى.. ونوه التقرير الإحصائى بأن هناك فردًا واحدًا أميا بين كل ثلاثة أفراد من السكان فى الفئة العمرية 15 سنة فأكثر ليبلغ معدل الأمية بينهم 29.8%. وأشار التقرير كذلك إلى أن معدل الأمية بين الشباب فى الفئة العمرية من 15 إلى 24 عامًا يبلغ نحو 8.6% مقارنة بمعدل الأمية لكبار السن ل 60 سنة فأكثر والذى بلغ 64.9%.. مما يعطى مؤشرًا إيجابيا عن الاتجاه نحو انخفاض هذا المعدل مستقبلا.. كما أن معدلات الأمية فى محافظات الوجه القبلى أعلى من غيرها.. وأن محافظة الفيوم سجلت أعلى المستويات بمعدل 37% تليها سوهاج 35.5% والمنيا 35% ثم الأقصر 34.4% وبنى سويف 33.1% وأسيوط 32.5% فى حين حققت أسوان أقل معدل حيث بلغ 17.5% فقط. وأكد التقرير أن أقل معدل للأمية فى محافظات الحدود حيث بلغ فى محافظة البحر الأحمر نحو 12% وشمال سيناء 14% والوادى الجديد 18.6% لافتا إلى أن معدل الأمية سجل 20.2% فى محافظة القاهرة و16.6% فى محافظة الإسكندرية. وقد كان إحصاء 2006 قد أكد أن ما يزيد عن عشرين مليون من عدد سكان مصر أميون.. أى أن المعدل طوال ثمانى سنوات لم يتحرك إلا بنسبة ضئيلة لا تذكر.. ونعتقد أن هذا الجهاز فى إحصاءاته المعلنة إنما يقصد هؤلاء السكان الذين لا يعرفون القراءة والكتابة فحسب مخرجًا من هذا الإحصاء مظاهر أخرى من الأمية تستحق أن ترصد وتدخل فى إحصاءاته الدقيقة. وتقول المعاجم العربية عن (الأمى) إنه الذى على خلقة الأمة لم يتعلم القراءة والكتابة والحساب ويتميز بقلة الكلام وعجمة اللسان. ذلك هو المفهوم اللغوى القديم عند العرب والذى جعل النبى صلى الله عليه وسلم يفرض شرطا يعفى به أسرى بدر من أسرهم بأن يعلم كل منهم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.. وربما كانت معجزة الرسول الكريم أنه أمى كغيره من العرب فيأمره الله بالقراءة (إقرأ) ومن خلال هذا الفعل السحرى استطاع أن يهدى أمة ويغدو أكبر وأعظم مثقفيها.. أما فى عصرنا الراهن.. فلم تعد (الأمية) تتوقف عند هذا المفهوم (عدم معرفة القراءة والكتابة والحساب) ولكن تعددت أشكالها ومظاهرها التى ترتبط بتفاعل الإنسان مع المجتمع المعاصر. ويطلق على عدم القراءة والكتابة: الأمية البيضاء أو أمية الأبجدية.. أى أن العقل الإنسان هنا يفتقد أبجدية المعرفة لأنه (صفحة بيضاء) لم يكتب عليها سطرًا واحدًا يتعلق بالوعى والفهم.. ولا شك أن أسباب وجود هذا المظهر من الأمية ترجع إلى عدم الالتحاق بالتعليم الأساسى منذ الصفر أو التسرب منه فى مراحله الأولى بالرغم من كفالة مبدأ التعليم للجميع. وكذا إصدار الفلاح المصرى على استثمار أبنائه فى الزراعة.. وقد يظل الفرد هكذا سنوات طويلة من عمره.. وربما يموت دون أن يتعلم شيئًا.. أما المظهر الثانى من الأمية الذى لم تذكره الإحصاءات الرسمية فهو ما يطلق عليه (أمية المتعلمين) وهو يسود بين التلاميذ والطلاب فى مراحل الدراسة المختلفة حيث يخضع التلميذ -أو الطالب- إلى منهج جاف يفرض عليه أن يحفظه (صمًا) ويظل يوقف ذاكرته على هذا النهج حتى يفرغه فى نهاية العام فى ورقة الإجابة بحيث يتبخر كل ما حفظه فى الذاكرة بمجرد التخلص منه ولا يبقى منه شىء فى ذاكرته. هو إذن واجب مفروض على الدارس أن يستظهره ويفرغه لأنه منهج لا يراعى فيه مخاطبة العقل واحترامه.. وللأسف الشديد أغفل واضعو هذه المناهج البعد الثقافى الذى يثير الخيال.. ويغذى العقل.. وقد كان هذا البعد متحققا فى الكتب التى كانت خارج المنهج وتمنح الطالب ثقافة خاصة ولا تدخل فى امتحان العام.. أما المظهر الثالث من الأمية التى أغفلها الإحصاء فهو ما نطلق عليه الأمية الثقافية وفيروس هذه الأمية واسع الحيلة ويتميز القدرة على الخداع وإثناء الفرد عن تحصيل الثقافة والمعرفة الجادة التى تغذى العقل وترتفع بمستوى الإدراك والوعى.. وتجعله ينخرط -عبثا- فى مظاهر التخلف والبعد عن القراءة واللجوء إلى ثقافة استهلاكية تتمثل فى الأغانى الهابطة واللغة المهنجة.. والتغريب والمحاكاة بلا وعى بعيدًا عن الرؤية السلمية والفكر والثقافة والوعى بما يدور حولنا.. وهذا المظهر من مظاهر الأمية ليس نتيجة مباشرة لعجز النظام التربوى والتعليمى وإنما هو تخلف مواقع كثيرة عن مسئولياتها فى تثقيف النسء إبتداء من الأسرة مرورًا بالمدارس والجامعات والإعلام والمؤسسات الثقافية وانتشار المعتقدات أن المتخلفة وانحدار الفنون والأخلاق.. والسلوكيات الغريبة.. إنها فى النهاية تعكس مناخا عاما فى المجتمع. وهناك مظهر آخر من الأمية استحدثته التكنولوجيا المعاصرة ويمكن أن نطلق عليه الأمية الإلكترونية وتتعلق بحمى إقبال الأطفال والشباب على أجهزة الكومبيوتر والهاتف المحمول لملء الفراغ باللعب و«الدردشة» وتبادل النكات والقفشات بدلا من تحصيل المعرفة والثقافة. تلك إذن مظاهر فيروس الأمية فى أشكاله وتحولاته المختلفة.. ولابد أن الاحصاءات الرسمية لا تضعها فى حساباتها وإلا اختلفت الصورة وصارت أكثر خطرًا على المجتمع.. وأخيرًا ألا يجب أن يكون المشروع القومى القادم هو (القضاء على الأمية بمظاهرها المختلفة)؟. يقول جميل بن معمر: هى البدر حسنًا والنساء كواكبُ وشتان ما بين الكواكب والبدر لقد فُضّلت حسنًا على الناس مثلما