1 - ما نشهده على أرض العراق اليوم، لم يحدث مثله فى أى عصر منذ الفتح الإسلامى، انطلق المسلمون الأوائل يحملون رسالة إلى العالمين، لم يعرف عنهم رغبة فى إبادة الشعوب التى تفتح لهم بلادهم، ولم يرصد التاريخ أنهم دعاة تدمير وخراب، لم يثقلوا على الشعوب فرض جزية جديدة، بل مارسوا الحكم دون تغيير يذكر فى شأن ذلك، تركوا حرية العبادة، لم يحاربوا ديناً أو عقيدة، لم يكرهوا أحداً على قبول الدعوة الدينية الجديدة فلا إكراه فى الدين ، ولكم دينكم ولى دين، تلك كانت المبادئ التى انطلقت بها جماعات الفتح فى فجر الإسلام بل ظلت صورة العذراء مريم تحمل المسيح ابنها على جدران الكعبة حتى القرن التاسع الميلادى أو حتى عصر عمر بن الخطاب . 2 - أدرك المسلمون منذ البداية أن ثمة قرابة دموية وصلة دينية بين قبائلهم العربية المتعددة، فالمسيحيون يعيشون بقبائلهم مع أصحاب الدعوة الجديدة بل شاركوا فى بعض الفتوحات مثل فتح الفرس التى استعان فيها خالد بن الوليد بالقبائل المسيحية كانت لهم صلات مصاهرة ، وللمسيحيين العرب مكانة خاصة عندهم وظل الحال فى معايشة رائعة إنسانية واحترام متبادل حتى تبدل الحال مع ظهور حكام ليسوا من أصل عربى، وليست لهم ثقافة إسلامية عميقة، ولم يتوغلوا فى تاريخ العلاقات بين المسلمين الفاتحين وبين أهل البلاد من المسيحيين الذين تمسكوا بعقيدتهم التى ترسخت فى وجدانهم من سبعة قرون، بل عاشت الأديرة والكنائس فى حماية الحكم الإسلامى ولكن اتساع مساحة الزمن بين فجر الدعوة والمتشبعين بروحها وبين أجيال دخلت الإسلام من غرباء، وهم بعيدون عن فهم روح الدين لم ينظروا إلى المسيحيين العرب النظرة الإسلامية الصحيحة كأقرب الناس مودة وتسامحاً كما كان يفعل المسلمون الأول. 3 - من الحقائق التاريخية الثابتة أن الأديان الإبراهيمية الثلاثة إنما انطلقت من الأرض العربية وكأن لهذه الجغرافية المقدسة رسالة خاصة ودوراً إنسانياً سيمتد قروناً وقروناً، سرت أنوار المسيحية بلاد الشرق قبل أن تصل إلى بلاد أخرى وأصبحت بلاد العرب، فى شمالها أرض آشور وبابل أو العراق وفى غربها أرض الفينيقيين فلسطين والشام ومصر، وفى أغلبها مسيحية بل مركز للإيمان المسيحى ومدرسة لعلوم لاهوتها وفلسفتها والمحرك الأساسى للفكر المسيحى للعالم كله، هذه البلدان نشأت فيها حضارات لاتزال تحدثنا بتراثها وآثارها عن تطور الفكر الإنسانى والدينى، ومنها العراق أرض الرافدين التى ورثت حضارة آشور وبابل كما ورثت تراثاً مسيحياً لازال يتوهج، ثم صارت بعد الفتح الإسلامى عاصمة الإمبراطورية الإسلامية التى تمثلها بغدادالمدينة الخالدة بل قامت بين بغداد والغرب أو بين هارون الرشيد وشارلمان علاقات ود وصداقة وهكذا كان العراق دوماً رمزاً للحضارة فى العصر المسيحى وفى العصر الإسلامى، ومن ملاحظاتى فى قراءة تاريخ العراق أن على أرضه خرجت دوماً حركات تجديد وإصلاح اختلطت بحركات التمرد والبدع، مما أثار الانشقاق والتمزق بين المسيحيين وكذلك بين المسلمين، أنه العراق صاحب الحضارة المجيدة ومنطلق الفكر والثورات. 4 - واليوم برزت ظاهرة «داعش» وتفسيرها: الدولة الإسلامية فى العراق والشام، واعلنوا الخلافة الإسلامية، وأقاموا لها خليفة، وتحلم هذه الدولة ببسط نفوذها على بقية البلدان العربية والإسلامية، بالرغم من أن الخلافة ليست شريعة ولا فرضاً وليس لها سند من نص صريح ، بل التراث الدينى من أروع ما عبر عن قيمة الإنسان إذ جعله «خليفة الله على الأرض» ولم يقل المسلم هو خليفة الله بل الإنسان، فالخلافة فى الدولة الإسلامية تبدو وكأنها تحاكى البابوية الكاثوليكية، ومرت عصور كان فيها أكثر من خليفة فى الولايات الإسلامية المتنازعة، بل قامت حروب بين خلفاء هذه الدول، وقد أسقط معاوية بن أبى سفيان الخليفة الأموى المعنى الروحى والدينى للخلافة حين جعلها «ملكية وراثية» بالرغم من احتفاظه بلقب الخليفة، ولست أدرى هل يريد أهل «داعش» تجديد عهد الخليفة بالرغم من عدم استناده إلى نص دينى؟! أم هو فخ تدفع الدول الكبرى إليه ليظل العالم الإسلامى والوطن العربى فى صراع دموى إلى ما شاء الله؟ 5 - تعلمنا من التاريخ الإسلامى، أن المسلمين لا يحاربون القوم العزل المسالمين، ولا يهدمون الكنائس، ولا يخطفون الرهبان والراهبات، ولا يسرقون التراث الدينى ولا يعتدون على حرمة بيت أو معبد أو صومعة لأنهم يحملون للعالم رسالة السلام والدعوة بالموعظة الحسنى، وبخاصة بعد أن سقط إلى الأبد عصر الحروب الدينية فما بال «داعش» تعتدى على أهل الوطن الأصلاء المتجذرين فى أرضه وترابه المتمسكين بإيمانهم وعقيدتهم، أو تظن «داعش» أنهم بهذه الوحشية يسبحون الله، وينصرون الإسلام، وينشرون الحق أم أن المغنم المادى والسياسى هو الغاية الكبرى عندهم؟ فى التاريخ دوماً غلبت المصالح السياسية والاقتصادية على سمو الأديان ونبل أخلاق المؤمنين ولو إلى حين، لقد عقد أمير الأندلس المسلم الأمير عبد الرحمن معاهدة مع بيزنطة ضد المسلمين العباسيين، كما عقد هارون الرشيد مع شارلمان إمبراطور الغرب اتفاقاً لمحاربة الأمويين، هل يكرر التاريخ ذاته، والتاريخ تكتبه دماء الشهداء والمخلصين ولا تكتبه أقلام المتآمرين والمتاجرين بالدين. هل تريد «داعش» أن تفرغ العراق من أبنائه الأصلاء، أصحاب الأرض والوطن وصناع الحضارة، والذين هم والمسلمون من جد واحد، وأصل واحد، ومصير واحد، وعائلة عراقية واحدة. إن كان عهد الاستعمار والاحتلال قد انتهى، ولم يعد سحق البلاد بالجيوش وسيلة فإن سحقهم بزرع الفرقة، وبتدفق المال أقبح منه وأشر من احتلال العسكر. ماذا فعل مسيحيو العراق لكى يقتلوا أو يهجروا قسراً أو يعتدى على عرضهم وعلى مالهم؟ أيجوز إكراه الناس على تبديل عقيدتهم تحت التهديد والوعيد بالموت والتعذيب قالوا للمسيحيين أمامكم إما الدخول فى الإسلام وإما الجزية إما القتل عجبى هل عدنا إلى عصور التخلف والعنصرية وتشويه صحيح الدين؟. إن مسيحيى العراق هم فى رعاية الله أولاً، وهم فى رعاية إخوانهم المسلمين ثانياً، وبشر الغزاة الجدد، وبشر الخوارج الجدد بخراب عاجل وفشل مؤكد بإذن الله لأنهم أعداء السلام والحضارة والتاريخ.