لأن العالم – بعد ثورة الاتصالات صار صغيراً فقد صارت كل الأشياء أكبر ومن بينها الأخطاء والعيوب والخطايا، وكذلك الغضب الذى ينمو ليفجرَّ (الثورات).. وهكذا تولد الأخبار من رحم العيوب التى تعصف بحاضر البشر .. فتلتهمها ماكينات الإعلام لتفرزها أحباراً سوداء على ورق الصحف وظلالاً متحركة على الشاشات تتلقفها العيون والآذان لتلهب المشاعر والعقول لتؤدى فى النهاية لانهيار أنظمة وبزوغ أنظمة أخرى فى دائرة أبدية فأعداء الأمس قد يكونون أصدقاء الغد.. فبطل قصتنا تلك هو «خوان كارلوس» الأب الذى نشأ طفلاً مدللاً فى أحضان نظام فاشى بعد أن اختاره الديكتاتور (فرانسيسكو فرانكو) ليكون وصياً عليه كى يضمن بقاءه فى سدة حكم البلاد الذى استمر لمدة أربعين عاماً قضاها الشعب الإسبانى فى ظل حكم ديكتاتورى أدار البلاد بالحديد والنار وحولها لسجن كبير وتعرض أكثر من نصف مليون مواطن للنفى خارج البلاد وأعدم أكثر من 250 ألف معارض وأحاط نفسه بالجواسيس والقناصة لحمايته من غضب ضحاياه. فقد استغل فرانكو الصراعات الدائرة بين الليبراليين والمحافظين على الحكم والتى تسببت فى زعزعة الاستقرار فى البلاد واستمرت حتى عام 1923 وبعد استيلاء الجنرال بريمو دى ريفيرا على السلطة بدعم من ملك البلاد آنذاك، وقد نجح الثوار فى إجبار بريمو على ترك منصبه لتنتشر شعارات النظام الجمهورى بعد فشل الملكية فى تحقيق الاستقرار فى البلاد وتم إجراء استفتاء عام حول بقاء الملكية أو إعلان الجمهورية ليفوز الحزب الجمهورى ويصبح النظام جمهورياً وتلغى الملكية عام 1931. ولم تهنأ البلاد بالتحول السلمى للديمقراطية فقد بدأ الصراع بين النظم الفاشية والشيوعية يتصاعد فى أنحاء أوروبا وقد تأثرت إسبانيا بهذا الصراع الذى أدى لوقوع صراعات سياسية واجتماعية بين أنصار الديمقراطية الوليدة ودعاة النظام الفاشى بزعامة فرانكو لينتهى الحال بنشوب حرب أهلية استمرت لثلاثة أعوام أسقطت من الضحايا عدداً يتجاوز المليون قتيل وانتصر فرانكو الذى حظى بدعم لوجستى خفى من ألمانيا وإيطاليا لتبدأ حقبة نظامه الديكتاتورى عام 1939 وتنتهى عام 1975 بوفاته. ولكى يضمن فرانكو استمراره فى سدة الحكم عقب انتهاء الفاشية بهزيمتها فى الحرب العالمية الثانية، قرر إجراء استفتاء عام 1947 انتهى بعودة الملكية مرة أخرى، وقد استغل فرانكو نتيجة هذا الاستفتاء وطلب الوصاية على خوان كارلوس حفيد الملك السابق ألفونسو الثامن ليكون وريثه على عرش البلاد بعد وفاته كى يضمن استمراره فى منصبه. وبعد أن تسلم خوان كارلوس عرش اسبانيا بدأ فى إرساء نظام ديمقراطى ملكى دستورى وقام بحل المؤسسات الديكتاتورية للنظام السابق وحظيت البلاد برخاء اقتصادى واستقرار اجتماعى وعلاقات جيدة بدول الجوار وقد استغل كارلوس هذه العلاقات فى عقد صفقات تجارية وصناعية وعسكرية حققت لبلاده مكاسب تجاوزت المليارات من الدولارات وقد أدت هذه الإنجازات لإرساء دعائم نظامه ولم تشهد البلاد إلا حالة انقلاب واحدة باءت بالفشل. ومع تزايد حدة الأزمات المالية وتفشى البطالة وظهور أخبار الحياة المرفهة التى يعيشها الملك وأسرته لتحتل مانشيتات الصحف داخل البلاد وخارجها، تزايدت حدة الانتقادات الداخلية الموجهة للعائلة المالكة لاسيما بعد أن طالت ملفات الفساد أعضاء الأسرة الحاكمة وفى نفس الوقت تزايدت شعبية الأحزاب الجمهورية وأصبح لزاما على الملك كارلوس (76عاماً) أن يتنحى عن العرش لصالح ابنه «فيليب» متعللاً بتدهور حالته الصحية وتقدمه فى السن. و يقول المؤيدون للنظام الملكى إن تنحى الملك جاء لصالح ابنه وهى خطوة جيدة لإعطاء الجيل الجديد فرصته، أما المعارضون فهم يرون أن هذه الخطوة تهدف لإعطاء قبلة الحياة للنظام الملكى الذى بات ينهار بسبب قضايا الفساد وسوء استغلال السلطة التى تواجه الأسرة المالكة بالإضافة لتزايد الدعوات الانفصالية التى باتت تهدد وحدة البلاد والمظاهرات المطالبة بإجراء استفتاء حول استمرار الملكية أو استبدالها بالنظام الجمهورى. ورغم تصاعد حدة الاحتجاجات المعارضة، فقد استعد مجلسا الشعب والنواب لاستكمال إجراءات تنفيذ نقل السلطة لصالح الوريث الشرعى للبلاد بالتصويت والنتيجة محسومة مقدماً وفقا للقانون خاصةً أن الأحزاب المؤيدة للملكية تمثل 80% من مقاعد البرلمان المنتخب عام 2011. بالإضافة لذلك فإن الملك فيليب الجديد (46 عاماً) يحظى بشعبية كبيرة فقد تم إعداده جيداً منذ طفولته لهذا اليوم ونجح فى إبعاد نفسه عن قضايا الفساد التى طالت أسرته وتزوج فى سن مبكرة من صحفية تنتمى لعامة الشعب ولديه ابنتان ويعيش فى منزل تم بناؤه فى حديقة القصر ويفتقد لمظاهر البذخ الملكى وهو رياضى مثقف يتقن العديد من اللغات وسوف يتولى حكم البلاد بعد إتمام التعديلات الدستورية اللازمة لعله ينجح فى إصلاح أخطاء والده فهناك مقوله تقول « أن تخطىء فى حق نفسك هذا خطأ .. أما أن تخطىء فى حق غيرك فتلك خطيئة».