أروى هذه الحكاية وأتناول تفاصيلها وآخر ما أفكر فيه هو تسلية القارئ.. ذلك أن الذى يهمنى بالدرجة الأولى والأخيرة أن نتأمل الحكاية ومعناها ومغزاها.. ثم نحاول أن نضعها فى دائرة المقارنة مع الواقع الذى تعيشه مصر هذه الأيام.. وبعد ذلك نحاول الإجابة عن التساؤلات التى تفجرها. والحكاية قديمة يرجع تاريخ وقائعها الحقيقية إلى عام 1944 - نهاية الحرب العالمية الثانية - وقد قدمتها السينما الأمريكية فى فيلم شهير يحمل عنوان «هل تحترق باريس؟» فى عام 1966 بطولة الممثل الفرنسى الشهير «جان بول بولموندو». والفيلم نفسه لا يهمنى. وإنما الذى يهمنى هو القصة الواقعية.. هيا بنا نقرأ!. بطل قصتنا -الواقعية وليست السينمائية - هو الجنرال ديتريش فون شولتز.. وهو آخر جنرال ألمانى يشغل منصب الحاكم العسكرى لباريس خلال سنوات احتلالها.. عندما اشتعلت نيران الحرب العالمية الثانية. كانت الأوامر قد صدرت للجنرال فون شولتز بحرق باريس وتدميرها بعد انسحاب القوات الألمانية من فرنسا على أثر هزيمتها على يد قوات الحلفاء. كان شولتز هو المسئول عن مؤخرة الجيش الألمانى المنسحب ومن ثم صدرت له الأوامر بحرق باريس وتدميرها بمجرد خروج القوات الألمانية منها.. ولم يكن فى الجيش الألمانى أيامها جنرال يمكن أن يعصى الأوامر.. خاصة إذا كانت هذه الأوامر قد صدرت من هتلر.. وكانت أوامر هتلر أن تحرق القوات الألمانية باريس انتقامًا من فرنسا ومن الحلفاء.. لكن شولتز لم يحرق باريس! تربى شولتز منذ طفولته على زيارة المتاحف الفنية والمعارض والآثار والكاتدرائيات والقصور وكل ما أنتجه العقل البشرى من فنون تخدم قيمة الجمال والحضارة.. ووقع شولتز تحت رعب الاختيار بين ضميره الحضارى والإنسانى وبين تنفيذ أوامر قائده وزعيمه.. هتلر! كان عذاب شولتز هو أنه يعرف باريس جيدًا ويحفظ معالمها عن ظهر قلب.. يعرف قصر الإليزيه ومتاحفها والتويليرى وفرساى وكنيسة نوتردام وغيرها من المعالم الحضارية الجميلة التى جعلت من باريس عاصمة للنور. وكانت باريس مقصد الأجيال منذ اشتهرت بهذا الاسم.. عاصمة النور.. وكان الجنرال شولتز نفسه قبل أن يصبح جنرالا.. بل نازيا.. بل جزءًا من حلم هتلر بالسيطرة على العالم.. كان الجنرال واحدًا من أولئك الشبان الذين اعتادوا مغادرة قراهم ومدنهم ليروا العالم.. وكان العالم أيامها مختصرًا فى باريس! وسأل الجنرال الألمانى نفسه.. هل ينفذ أوامر هتلر ويحرق باريس أم يحافظ عليها ويتركها كما هى.. عاصمة للنور؟!.. لو أنه نفذ الأوامر وقام بحرقها وتدميرها فمن المؤكد أنه سيجلب لاسمه ولعائلته وأبنائه وأحفاده العار.. وسوف يذكره التاريخ باعتباره الرجل الذى أحرق عاصمة النور.. تمامًا كما يذكرالتاريخ نيرون باعتباره الرجل الذى أحرق روما! لو أنه فعل ونفذ الأوامر فإنه سيحرم العالم من قيمة حضارية كبيرة يعرف هو قيمتها وتأثيرها وجمالها.. أما لو اختار أن يحافظ على هذه القيمة الحضارية ويترك باريس كما هى.. عاصمة للنور فإنه يعلم أنه يغامر بحياته ويغامر برأسه فأغلب الظن أن هتلر سيأمر بإعدامه رميًا بالرصاص! كان الجنرال الألمانى يعلم أن تكوينه العسكرى يصارع ضميره الإنسانى.. واختار الجنرال الألمانى الإنسانية.. اختار أن يريح ضميره الإنسانى على حساب تكوينه وطبيعته العسكرية.. اختار أن ينقذ باريس عاصمة النور وأعطى أوامره لجنوده بتفكيك كل الألغام التى زرعت فى كل معالم باريس الشهيرة.. والتى أعدت للتفجير بمجرد رحيل آخر جندى ألمانى من باريس.. وهكذا نجت عاصمة النور.. وشاءت الأقدار أن ينجو أيضًا الجنرال الألمانى من القتل بعد أن انتحر هتلر.. ويزور الجنرال الألمانى بعد أكثر من عشرين عاما ياريس.. التى لم يحرقها! انتهت القصة التى تحمل معنى جميلًا ومغزى عظيمًا.. والآن جاء الدور على الواقع.. جنرالات الإخوان الذين يريدون حرق مصر! *** عندما قامت ثورة 30 يونيو الرافضة لحكم الإخوان كان من المفترض أن تدرك الجماعة ويدرك قادتها أن الإرادة الشعبية التى جاءت بهم هى نفسها التى أطاحت بهم وأن عليهم أن يتنحوا جانبا لهذه الإرادة ويتدارسوا فيما بينهم الأسباب الحقيقية التى جعلتهم يسقطون بعد تجربة عام واحد من الحكم.. لكنهم لم يفعلوا! اعتبرت جماعة الإخوان واعتبر قادتها أن ما حدث ليس خسارة لصراع سياسى. وإنما هو هزيمة عسكرية.. واضطرت الجماعة واضطر قادتها للانسحاب.. تماما كما انسحب الجيش الألمانى من باريس بعد هزيمته من قوات الحلفاء! انسحاب الإخوان جاء بالهروب والاختفاء وحلق اللحى التى أطلقوها لأكثر من 80 عاما!.. إلا من وقع منهم وألقى القبض عليه!.. وجاءت أوامر الجماعة وقادتها لجنرالات الإخوان والإرهاب صريحة وواضحة.. احرقوا مصر! عندما أمر هتلر بحرق باريس كان يدرك جيدًا أن الجيش الألمانى لن يعود إليها مرة أخرى وأنه يفعل ذلك على سبيل الانتقام.. نفس ما تفعله جماعة الإخوان وتفعله قادتها الذين يعرفون جيدًا أنهم لن يعودوا أبدا لحكم مصر. إنما هم ينتقمون منها ومن شعبها! وعندما تصل الأوامر لجنرالات الإخوان بحرق مصر فإنهم يقعون تحت ضغط الاختيار الصعب الذى وقع تحته الجنرال الألمانى. أحد هؤلاء الجنرالات على سبيل المثال هو طالب كلية الهندسة الذى قام بتفجير قنبلة على كوبرى الجلاء. هذا الطالب ولد فى مصر وعاش على أرضها وتربى من خيرها وشرب من نيلها.. هذا الطالب تعلم فى مدارسهاوتنزه فى حدائقها واستمتع بكل تفاصيلها.. وعندما صدرت إليه الأوامر بتدمير مصر وتفجيرها وحرقها.. لابد أنه سأل نفسه هل ينفذ أوامر جماعته ويحرق مصر التى يعرف قيمتها وقدرها أم ينحاز إلى ضميره الإنسانى ولا يفعل؟! نفس السؤال الذى سأله لنفسه الجنرال الألمانى.. الفارق الوحيد أنه فكّر فى حرق بلد أعدائه، أما جنرالات الإخوان فإنهم يفكرون فى حرق وطنهم! والمفارقة أن الجنرال الألمانى انحاز لإنسانيته على حساب أعدائه.. أما جنرالات الإخوان فقد حولوا وطنهم إلى عدو! وهذا بالضبط هو ما يفعله كل جنرالات الإخوان الذين يحرقون جامعات مصر ومؤسساتها ومحطات كهربائها ومبانيها ومصانعها.. مستهدفين حرق مصر! *** مصر لن تحترق.. تماما كما لم تحترق باريس.. ليس بفضل جنرال ألمانى انحاز لضميره الإنسانى، إنما لأن مصر أكبر وأعظم وأبقى من كل جنرالات الإخوان.. والإرهاب!