كأنهما على موعد معا.. بعد هذا العمر المديد.. والكفاح البديع من قاع المجتمع إلى القمة.. وكلاهما بقدر ما عانى من السجن والظلم والجوع والمعاناة.. لكنه عاش لا يحمل فى قلبه سوى المحبة للجميع.. وانتصر بالبراءة والمناورة على قوى الشر، ولم يضعف أمامها أو يتنازل.. وبذكاء المصرى وفهلوته.. حتى بعد رحيله.. وكأنه أراد أن ينضم إلى حالة الحداد الرسمية التى أعلنتها مصر على رموز الحرية نيلسون مانديلا.. وقف أحمد فؤاد نجم أو «نجم ديللا» تحت نفس المظلة ولما لا.. تلك هى تصاريف القدر.. وبركة دعاء الوالدين كما كان «الفاجومى» يردد.. حيرنا اليتيم ابن الشرقية.. وأدهشنا كذلك ابن إقليم «أومتاتا» فى جنوب أفريقيا الذى كان اسمه الأصلى «دوليها لاهلا» المشاغب.. ثم اكتسب اسم مانديلا بعد ذلك كما اكتسب نجم لقب «الفاجومى» ومعناها بالبلدى الذى يعيشها بالطول والعرض وقد ضرب الدنيا بالقديمة.. وحول سجنه المظلم إلى مساحة ضده للحرية.. له ولغيره. كلاهما استطاع أن يحصل على احترام قاضيه ومن يحاكمه.. بل من يعاديه وفى مرة من ذات المرات التى تم فيها القبض على «نجم» وفى مجمع المحاكم ببولاق.. أمر القاضى بإحضاره.. ودخل إليه بعد أن فكوا الحديد من يده.. وعندما انفرد به طلب منه أن يسمع قصيدة «بقرة حاحا» وكانت قد أثارت جدلًا واسعًا.. وعن هذا الموقف قال نجم فى مذكراته: (بصيت على القاضى لقيت قدامى وش مصرى.. شعر ملح وفلفل وسحنة نحاسية ووش بيضاوى لا يمكن أنساه.. وش يديك الإحساس بالألفة والأمان.. أنا لغاية دلوقت ما عرفش هو مين.. لكن هو عارف نفسه وقلت القصيدة بكل ما فى داخلى من حزن وعشق وشجن، وفوجئت بدموع القاضى نازلة على خدوده فى صمت فانفجرت أيضًا فى البكاء حتى انتهيت منها.. وبعد لحظات أخرج من جيبه ورقة بعشرة جنيهات وقدمها إلىّ قائلًا:أنا هافرج عنك أنت والشيخ إمام بكفالة عشرين جنيها، وللأسف ماقدرش أساهم غير بالمبلغ ده! قلت: شكرًا أنا معايا المبلغ. قال: هات لى به شريطا من تسجيلاتكم. قلت له: شرايطنا لا تباع.. هاجيب لك واحد هدية. قال: أنا هافرج عنكم لكن هما مش هيسيبوكم خلوا بالكم! قلت له: المفروض أنتوا اللى تخلوا بالكم! وعلى النقيض من ذلك كان هناك من الضباط من ينظر إلى نجم والشيخ إمام على أنهما من مصادر الإزعاج للسلطات ولهم.. وكانت لديه القدرة العجيبة على أن يحول كل لحظات الأنس إلى ذكريات يحكيها بلا خجل. شقاوة «الفاجومى» فى عزبة نجم بالشرقية وارتباطه بأمه.. هى نفس الصورة التى عاشها مانديلا.. الذى كان يطارد الطيور بواسطة المقلاع ويجمع عسل النحل والجذور يصطاد الأسماك بالخيط المجدول.. ويلعب المصارعة والمبارزة. وها هو نجم بخفة ظله يحكى عن حربه الضروس مع كلاب القرية ويقول: وأنا لم أبدأ هذه الحرب وقد ضاعت كل فرص السلام بينى وبين كلاب القرية فإذا سمعت فى القرية أحد الكلاب يعوى أو يصرخ مستجيراً أعلم أنى لى علاقة بالموضوع.. وكأن الكلاب قد عرفتنى فهى تنبح بشدة إذا شاهدتنى.. وياويلى إذا تواجدت فى منطقة لا أجد فيها ما تيسر من الطوب ومع ذلك انتصرت فى كل معاركى باستثناء موقعتى الشهيرة مع كلب الخواجة كارند.. يا أخى حتى كلاب الخواجات «بنت كلب» أمثالهم! وتغيرت أحوال مانديلا عندما ذهب إلى «جوهانسبرج».. وضاع نجم فى زحام القاهرة..تجربة السجن.. حولت مانديلا إلى بطل... وتجربة السجن حولت نجم من مجرد متهم بالتزوير فى أوراق حكومية.. إلى شاعر يتسع قلبه وعقل لمصر على اتساعها.. وقد دفع فى غرامها وأرادها دائماً. فى أحسن حال كما تستحق.. وظل حتى آخر أيامه يشع بالتفاؤل.. بأن أم الدنيا سوف تتجاوز ماهى فيه لتصبح قولا وفعلاً «قد الدنيا» و «مانديلا».. المقاتل العظيم قهر العنصرية بكفاحه المرير لا محبته العظيمة لبلاده. جاءت الفرصة أكثر من مرة أحمد فؤاد نجم. ومعه الشيخ إمام أيام المطاردة والفتك خاصة فى عصر السادات.. وفتحت أمامهما أبواب الملوك والرؤساء وكنوز الذهب والفضة والقصور.. لكنهما اختارا حياة الفقر والحوارى والبهدلة والحشيش.. بدون تنازل أو تفريط لأنهما لم يكافحا لأجل المال والشهرة ومانديلا بعد أن أعاد بلاده إلى الأفارقة أصحابها وأهلها بعد سرقتها من البيض عاش بسيطاً بين الناس. أحب عمر أحمد وقد كان سبباً فى يوم من الأيام خلال السبعينيات فى فصلى من كلية الهندسة و وقتها كنت أمينا للجنة الثقافية وجاء بعض الزملاء يطلبون موافقتى لعمل أمسية شعرية يحضرها مع الشيخ إمام... نعم كنا نتصرف فى الاتحاد على حريتنا.. لكن مباحث أمن الدولة كانت لنا بالمرصاد تراقب كل كبيرة صغيرة... ولم أكن من الذين يتابعون نجم مثل زملائى وكنا فى هندسة المطرية فى شبه عزلة عن باقى كليات جامعة حلوان الجامعات الأخرى ومع ذلك وافقت.. وسافرت فى مرحلة إلى أسون وجاء إمام ونجم وزحف الطلاب خلفهما من جامعات مصر كلها فى سابقة لم تشهدها الكلية من قبل وتدخل أمن الكلية والحرس لإفشال الأمسية بكل السبل.. وكانت مجلات الحائط فى هذا الوقت تمثل وسيلة الاعتراض الأولى والأخيرة.. ووقع المحظور وأنقذتنى العناية الإلهية من المأزق لكى اكتشف أكثر وأكثر من هو نجم وأحبه عن وعى ومعرفة بعد أن كنت أحبه عن بعد .. مثلما فرحت بمانديلا وقرأت مذكراته أكثر من مرة. ومن كلاهما تعلمت الانتصار على الحياة بالحب وفقا لنظرية المنطاد كلما ازدت الارتفاع به القيت بالمزيد من شكائر الرمال أو تنازلت عن الكثير من الأشياء التى يقاتل غيرك لأجلها. والوقت وقتك ياولد يابن البلد ياقلب مصر ونبضها يسرى بطولها وعرضها ياقحمها يارمحها ياصبحها ياربحها يانور سماها وأرضها