أخيرا.. أخيرا.. تخلت الإدارة الأمريكية عن سياسة المراوغة، والإنكار، واعترفت بتنصت وكالة الأمن القومى على أصدقائها وحلفائها قادة دول العالم. ربما اتخذت هذا المنحى تحسباً، وتفاديًا لأزمة دبلوماسية قد تلحق الضرر بعلاقاتها بالقادة فى «برلين» و«باريس» و«مدريد». وأصبحت تلك الأطراف تتحسب للخطر الأكبر من دول غير صديقة قد تضع كلتا يديها على كنز الوثائق السرية «ثلاثين ألفًا» مازالت مع «إدوارد سنودن» مفجر القضية. من يبحث عن مصدر الأزمة والقضية سيجدها فى قرار الرئيس السابق «جورج بوش الابن» فى أعقاب أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001م. عندما قرر زيادة قدرات وكالات الاستخبارات الأمريكية فى كافة أنحاء العالم، ووضع اليد على كل مكالمة هاتفية ومراسلات واتصالات عبر شبكة المعلومات الدولية. وذلك بزعم مكافحة الإرهاب. وفى تحقيقات ما بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر ظهرت للإدارة الأمريكية مشكلة شديدة الخطورة وهى أن أجهزة المخابرات الأمريكية وعددها ستة عشر لا تتبادل المعلومات فيما بينها تقرر إنشاء هيئة عليا للاستخبارات تصب فى قاعدة بياناتها الأساسية كل معلومات أجهزة الاستخبارات الستة عشر. وواصلت أجهزة الاستخبارات الأمريكية أعمالها فى التنصت والتعقب أيضا فى ظل إدارة الرئيس «باراك أوباما». لكن فى مرحلة محددة تمكن إدوارد سنودن الموظف البسيط الذى يؤدى عملا فنيا فى شركة دعم فنى لوكالة الأمن القومى من اختراق الخط الأحمر والدخول إلى كنز المعلومات الدولى دون أن يكون لديه علاقة وظيفية به. وكشف لمسئولى صحيفة «واشنطن بوست» الوثائق السرية لبرنامج التنصت الأمريكى. وبرر موقفه بأنه بدوافع أيدلوجية، ثم لاذ بالفرار إلى هونج كونج وخوفا من تسليمه للولايات المتحدة هرب منها إلى روسيا، والتى أعلنت أنها لن تسلمه للأمريكان. وذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أن إخفاء السلطات الروسية «لسنودن» فى المطار بموسكو زاد من توتر العلاقات بين البلدين وهى علاقات تزايدت توتراتها فى السنوات الأخيرة بسبب عمليات الاعتقال المتبادل للجواسيس بين الدولتين. لتباين المواقف بين موسكووواشنطن فى قضايا جيو سياسية، مثل البرنامج النووى الإيرانى، والأوضاع الداخلية فى سوريا. ومما ذكرته الصحيفة أيضا أن الإدارة الأمريكية أوفدت مسئولين رفيعى المستوى إلى عدد من العواصم لتحذير الحكومات من مخاطر الكشف عن محتويات الوثائق السرية. وفى بعض الدول التقى المسئولون الأمريكيون ببعض المسئولين فى الحكومات دون معرفة المسئولين الآخرين. وذلك لأن الإدارة الأمريكية تخشى من الإضرار بعلاقات مفرطة فى الحساسية مع بعض الدول. ومؤخرا قام «توماس دريك» رجل هيئة الأمن القومى سابقا بزيارة إلى موسكو، والتقى «بادوارد سنودن» الذى أكد له أن الغرباء لن يطّلعوا على المعلومات السرية، لأنه لا يريد إلحاق الأذى بأجهزة الاستخبارات الأمريكية، ونشاطاتها الشرعية فى حماية الأمن القومى للولايات المتحدة. وقال «سنودن» ل «دريك» ومراسل صحيفة «نيويورك تايمز» إنه لم يأخذ معه وثائق سرية إلى روسيا، وبالتالى ليس ثمة احتمال لوصولها لأيدى الروس أو الصينيين. ويضيف مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» بقوله: «رغم تطمينات «سنودن» فهناك قلق مبرر لدى أجهزة الاستخبارات الأمريكية، بعد تسلم المسئولين فى وكالة الأمن القومى قائمة جرد بالوثائق التى وضع «سنودن» يده عليها. فى التقارير التفصيلية عن القضية ما نشرته صحيفة «واشنطن بوست»، وكشفت فيه عن عمليات تجسس وكالة الاستخبارات الأمريكية على ملايين المستخدمين لموقع البحث «جوجل»، فيسبوك، واخترقت رسائل البريد الاليكترونى، وتسللت لغرف الدردشة، وسجل تدوين المعلومات فى الشركات العملاقة فى شبكة المعلومات الدولية. وذكرت الصحيفة أن البيت الأبيض حصل على سجل هواتف ملايين المستخدمين بادعاء أهمية تلك المعلومات لحماية الأمن القومى. صحيفتا «واشنطن بوست» «وجارديان» كشفتا أيضا أن وكالة الأمن القومى حصلت على سجلات الهاتف للملايين من عملاء شركة «فيريزون» للاتصالات، بالإضافة إلى حق الوصول إلى محتوى صناديق البريد الألكترونى، ونقل الملفات. وتم ذلك كجزء من برنامج يسمى «المنشور» وتم إجراؤه بالتعاون مع شركات الاتصالات. وتناول التقرير رأى نسب إلى مصدر أمريكى رفيع المستوى قال فيه إن بها برنامج استخدام الحكومة لخوادم الشركات العملاقة للاتصالات صمم لجمع المعلومات فقط عن أشخاص ليسوا مواطنى الولاياتالمتحدة، لأن القانون الأمريكى لا يسمح بمتابعة أو ملاحقة اتصالات حاملى الجنسية الأمريكية، فى داخل أو خارج البلاد. ويهدف البرنامج لجمع معلومات مهمة ومفيدة تتيح حماية الوطن من التهديدات. وقال مدير الاستخبارات الوطنية «جيمس كلابر» إن القانون يسمح للإدارة الأمريكية بجمع معلومات من خلال الحسابات الشخصية لمستخدمى شبكة المعلومات الدولية. وينطبق ذلك فقط على أولئك الذين ليسوا مواطنى أمريكا ويقيمون خارجها. وذكرت الصحيفة أيضا أن شركة «فيريزون» للاتصالات تلقت أمرا من المحكمة الأمريكية لشئون الاستخبارات الأجنبية بالسماح لوكالة الأمن الوطنى بالتنصت على الملايين من عملائها. وكشفت صحيفة «الجارديان» البريطانية أن أمر المحكمة الصادر فى الفترة من 25 إبريل حتى 19 يوليو من العام الجارى، يلزم شركة «فيريزون» التى لديها 121 مليونًا من عملاء الهواتف الخلوية والخطوط الأرضية بتزويد وكالة الأمن الوطنى، بجميع المكالمات الهاتفية التى أجريت فى الولاياتالمتحدة وإلى الخارج. وفى مقابلة تليفزيونية وجه السؤال للسيناتور «ديان فينشتاين» رئيس لجنة الاستخبارات فى مجلس الشيوخ، إن كان قد ورد أمر مماثل فى المحكمة لشركة اتصالات أخرى فأجابت بأنه محظور عليها الرد وفقا لقانون السرية. تراث بوش ما كشفه «سنودن» هو أول دليل ملموس على أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية مستمرة فى عمليات تجسس واسعة النطاق بدأها الرئيس السابق جورج بوش. فقانون «باتريوت» الذى جرى تمريره بعد فترة قصيرة من أحداث الحادى عشر من سبتمبر يسمح وبالقانون للبوليس الفيدرالى بمطالبة القاضى بإصدار أمر للتحقيق والبحث عن معلومات للحصول على أدلة ملموسة عن عناصر أجنبية. وقال المتحدث الرسمى للبيت الأبيض إن الإدارة تستخدم قانون باتريوت لدعم عمليات جمع المعلومات الاستخباراتيه الحساسة بصفة خاصة، ويتم اطلاع أعضاء الكونجرس عليها بشكل كامل وتخضع لرقابة أعضائه، وتشرف عليها وزارة العدل ومراقبى وكالات الاستخبارات ذات الصلة. وأكد البيت الأبيض على أن جمع سجلات مكالمات ملايين المواطنين هو خطوة تتم بناء على أمر قاضى المحكمة، وفى الوقت ذاته يراعى حماية الخصوصية والحريات المدنية وأن المعلومات المرسلة لا تشمل محتويات المحادثات أو اسم من أجراها وترتبط حصريًا برقم ومدة المكالمة. أوباما يعترف وقد اعترفت الولاياتالمتحدة للمرة الأولى بتعقب وكالة الأمن القومى للمحادثات الهاتفية لقادة دول العالم.. وقيل إن أوباما لم يكتشف الأمر إلا فى الصيف الماضى فقط. وأمر بوقف أنشطة الأجهزة التى تقوم بذلك. وأن الرئيس أوباما كان يتلقى إحاطات عامة بشأن جدول أولويات جمع المعلومات ويوافق عليها. ومرؤوسوه هم من يتخذ القرار بشأن تعقب اتصالات أشخاص محددين. ولوكالة الأمن القومى الكثير من برامج التصنت وتتم إحاطة أوباما بموجز عن كل منها. وذكرت صحيفة «وول ستريت» أن أنشطة جمع المعلومات لم تتوقف بعد الصيف الماضى، وظلت أعمال متابعة اتصالات الزعماء، لأن بعضًا من برامج الرصد توفر معلومات استخباراتية حيوية للولايات المتحدة ولم يتضح عدد الزعماء الذين أزيلوا من قائمة المتابعة ومن ظل مسجلًا فيها. وبحسب ما أوردته الصحيفة توقفت أعمال تعقب هواتف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وعدد آخر من قادة دول العالم. صحيفة الموندو الأسبانية نشرت تقريرًا استندت فيه إلى وثيقة سرية سربها إليها «إدوارد سنودن» تكشف تنصت أمريكا على ستين مليون مكالمة هاتفية فى شهر واحد. فى الفترة من 10 ديسمبر 2012 حتى 8 يناير من العام الجارى وفقًا لما ورد فى التقرير، فى تقرير الصحيفة تعليق المتحدث الرسمى لرئاسة الحكومة فى أسبانيا الذى قال إن حكومته حتى الآن ليست على علم بأن المواطنين الأسبان تعرضوا لعمليات تنصت من وكالة الأمن القومى الأمريكية والمتهمة بالتصنت على الملايين من المكالمات الهاتفية فى فرنسا والهاتف الشخصى للمستشارة ميركل. وأعلن رفض أسبانيا لدعوة المستشارة الألمانية انجيلا ميركل للدول ال 28 فى الاتحاد الأوروبى لتوقيع معاهدة لمنع التجسس مع الولاياتالمتحدة. فى برلين وكانت ميركل قد طرحت الاقتراح على أوباما فى لقائه ببروكسل الصيف الماضى. وقال رئيس الوزراء الأسبانى ماريانو راخوى إن بلاده تسعى للحصول على المزيد من المعلومات حول قضية التنصت قبل اتخاذ أية خطوات. ليست المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فقط من تعقبوا اتصالاتها الهاتفية بل ظهر أيضًا أن وكالة الأمن القومى الأمريكى تعقبت اتصالات مستشار المانيا السابق جيرهارد شرودر لرفضه تأييد أمريكا فى عملية غزو العراق، ورئيسة البرازيل ديلما روسيف، ورئيس المكسيك أنيريكا بانيانيتو، وممثلى الاتحاد الأوروبى والبعثات الدبلوماسية فى كافة العواصم الأوروبية وغيرها. تذكر صحيفة «دير شبيجل» الألمانية أن فى ساحة باريس فى وسط برلين، وعلى بعد مسافة قصيرة من مقر البرلمان الألمانى أنشأت الولاياتالمتحدة مبنى للتجسس على سطح سفارتها. يذكر تحقيق الصحيفة أن البعثة الدبلوماسية للولايات المتحدة لم تقدر تعزيز علاقات الصداقة والدبلوماسية بين الدولتين. فقد أقيم على سطح مبنى السفارة الأمريكية منشأة تعمل فيها وحدة خاصة من وكالة الاستخبارات المركزية، ووكالة الأمن القومى حيث تقوم برصد الاتصالات والخطوط الخلوية والأرضية فى مجال المكاتب الحكومية, وتم توجيه أجهزة ومعدات التنصت إلى أهداف عديدة من بينها الهاتف الخلوى لانجيلا ميركل. وفى وثيقة أخرى نشرتها «دير شبيجل»، تظهر قيام وكالة الأمن القومى فى عام 2010 بتشغيل وحدة تجسس فى بيرلين تسمى (مجموعة الجمع الخاصة) ولها فروع فى ثمانين عاصمة بما فى ذلك عشرة فى عواصم أوروبية مثل باريس، مدريد، روما، براج، جنيف، تلك المجموعة لديها فرع آخر فى فرانكفورت وتجرى أعمال التنصت من السفارات والقنصليات الأمريكية بحرية تامة حيث يتمتع أعضاؤها بالحصانة الدبلوماسية. أجهزة التجسس وضعت على سطح السفارة الأمريكية وتم حجبها بجدران خرسانية. وأجرت الصحيفة مقابلة مع المحقق الصحفى «دنكان كامبل» المختص بشئون الاستخبارات، وبعد معاينته للمنشآت قال إنها وضعت لتسمح بمرور والتقاط أضعف وأقوى موجات الإرسال. ودخل جهاز الموساد الإسرائيلى فى دائرة الاتهام بالتجسس والتنصت، لكن فى العاصمة الفرنسية باريس. حيث كشفت صحيفة لوموند عن وثيقة سرية حصلت عليها أيضًا من سنودن وفيها يظهر رجال المخابرات الأمريكية فى مواجهة مع الفرنسيين يلقوا بالمسئولية على جهاز الموساد الإسرائيلى. وبأن عملاءه هم الذين حاولوا اختراق أنظمة حماية الاتصالات فى قصر الاليزية فى شهر مايو العام الماضى. ويظهر من تفاصيل التقارير التى أوردتها الصحف الأجنبية واستندت فيها إلى ما قام بتسريبه إليهم إدوارد سنودن أن الولاياتالمتحدة منحت نفسها الحق فى اختراق أنظمة حماية الاتصالات فى كافة دول العالم، بينما ردود فعل قادة الدول التى انتهكت سيادة مجالها الجوى هادئة، سواء فى باريس، ريودى جانيرو، مدريد وكما لو أنهم اقتنعوا برأى رئيس لجنة الاستخبارات فى مجلس النواب مايك روجز الذى قال: غالبًا ما يكون لأصدقائنا علاقات مع أعدائنا وعلينا أن نكون حذرين بعدم جمع المعلومات التى لا نحتاج إليها، ولكن نجمع معلومات عما هو ضرورى. برنامج الولاياتالمتحدة للمراقبة يجعل أمريكا وأصدقاءها وحلفاءها أكثر حماية، ولو عرفوا الذى نتعقبه لصفقوا لنا، واحتفلوا بفتح زجاجات الشمبانيا.