كان أبو الطيب المتنبى يتميز بالعقل الراجح والذكاء الشديد، ولكنه كان مغرورا شديد الاعتزاز بنفسه، وهو ما عرضه للهلاك مرتين، وقد خابت الأولى.. بينما صابت الثانية، ويبدو أنه اعتقد أن ما يأتيه من الشعر.. كأنه وحى.. فأنشد يقول: أنا ترب الندى ورب القوافى وسمام العدا وغيظ الحسود أنا فى أمة تداركها الله غريب كصالح فى ثمود ثم ادعى النبوة.. وقبض عليه.. ولكنه استتاب وأخلى سبيله، ولكن ليست كل مرة تسلم الجرة، فبعد مغادرته مصر ذهب إلى بغداد ثم إلى بلاد فارس، وفى تلك الفترة قال قصيدة هجاء فى شخص يدعى ضبة بن يزيد العينى، وكانت والدته شقيقة لشخص متهور يدعى فاتك ابن أبى جهل الأسدى.. والذى علم بما قاله المتنبى فى ابن شقيقته فتربص به ينوى قتله، وأثناء عودة المتنبى من بلاد فارس إلى بغداد اتصل بصديق له يدعى أبا نصر الحلبى فأطلعه على ما ينويه فاتك ضده، ونصحه بأن يصحب معه من يحمونه طوال الطريق، ولكن المتنبى عاند وتكبر ورفض ذلك قائلا: أنا والجراز فى عنقى، فما بى حاجة إلى مؤنس، ثم أضاف: والله لا أرضى أن يتحدث الناس بأننى سرت فى خفارة غير سيفى، وظل صديقه يحذره.. وهو يعقب: أبنجو الطير تخوفنى.. ومن عبيد العصى تخاف علىّ؟ معاذ الله أن أشغل فكرى بما ذكرت اسمه لحظة واحدة، فقال له أبو النصر: قل إن شاء الله، فرد المتنبى: هى كلمة مقولة لا تدفع مقضيا ولا تستجلب آتيا! ثم ركب وسار فى طريقه ولقيه فاتك فاقتتلوا، وحاول المتنبى الهرب، فنادى عليه غلامه: أتهرب وتتركنا وأنت القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفنى والسيف والرمح والقرطاس والقلم «فعاد المتنبى للقتال.. حتى قتل مع ولده محسد وغلامه مفلح فى 28 رمضان عام 354 ه (965م). تلك قصة المتنبى الذى وصف بأنه أشعر شعراء العرب.. فقد نظم الشعر على جميع الحروف الهجائية، وتحولت أبياته إلى مأثورات.. وأمثال وحكم يرددها كل من يعرف العربية.. بل لا يخلو مقال لكاتب أو قصة لأديب من الاستعانة بإحدى مقولات المتنبى. فمن منا لا يردد عن العقل والجهل والشرف: ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى تراق على جوانبه الدم وأقرأ الحكمة الصادقة المعبرة.. فى قوله: وما الحسن فى وجه الفتى شرف له إذا لم يكن فى فعله والخلائق وما بلد الإنسان غير المواقف ولا أهله الأوفون غير الأصادق أو عندما وصف عذاب الجسد بسبب فكر العقل: وإذا كانت النفوس كبارا تعبت فى مرادها الأجسام وكذا تطلع البدور علينا وكذا تفلق البحور العظام وعندما عبر عن معنى الآية الكريمة «وتلك الأيام نداولها بين الناس».. وأيضا الفرق بين الحب مع العقل.. والحب مع الجهل.. حين قال: بذا قضت الأيام ما بين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائد وإن قليل الحب بالعقل صالح وإن كثير الحب بالجهل فاسد وأيضا عن ثواب المعروف ومع من يكون؟ ولماذا؟ إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع الندى موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف موضع الندى ويحكى أنه طلب منه أن يقول بيتا من الشعر يتضمن ما يمكن من الحروف الهجائية.. فقال: عش ابق اسم سد جد قد مر انه أسرفه تسل غظ ارم صب احم اغز اسب رع زع دل أثن نل ثم قال لمحدثه: هذا دعاء لو سكت كفيته لأنى سألت الله فيك وقد فعل وكان المتنبى يقصد العيش والبقاء والسمو والسيادة والجود وقيادة الجيوش، الأمر والنهى، والوفاء، وعيش مسرورا، وفى مروءة، وسخاء، ونل ما ترغب، وغظ حسادك، وارم بكأسك من يكيدك، واصب الهدف، واغز أعداءك، واسب أولادهم، وتحمل دية أتباعك، وأصرف أعداءك عن مرادهم، وأثنهم عما يرغبون ونل منهم. هكذا كان لشاعرنا القدير.. قدرة شعرية.. وحكمة بالغة ومعان عميقة.. وهو ما وصف نفسه بها حيث قال: ما نال أهل الجاهلية كلهم شعرى ولا سمعت بسحرى بابل لا تجسر الفصحاء تنشدههنا بيتا ولكن الهزبر الباسل أو كما قال.. واصفا نفسه أنه الأشعر على الإطلاق: وما الدهر إلا من رواة قصائدى إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا فسار به من لا يسير مشمرا وغنى به من لا يغنى مغردا رحم الله المتنبى.. وأمتعنا الله بأشعاره.